خطب الجمـعة |
![]() |
|
12 |
|
بسم الله الرحمن الرحيم
فضل الأيام العشرة الأولى من ذي الحجّة - 1
كتبها: الشيخ د . يونس صالح
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وأصحابه وأحبابه الطيبين الطاهرين ،
أما بعد:
إن الله جل وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمدًا وعليهم أجمعين، وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهُرِها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عشرها عشر ذي الحجة.
والمسلم يعيش مباركًا في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ، إذ هي بركة على أهلها، كما يقول تعالى: مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وكما يقول : ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيّن ذلك، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن هَمَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن هَمَّ بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك)). وهذا يدلّ على أن الطاعة بركة في القول، إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة فلا يسخط عليه أبدًا. والطاعة بركة في العمل، إذ الصلاة بعشر صلوات، وصوم رمضان بعشرة أشهر، والصدقة بسبعمائة ضعف، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
وأعظم الزمن بركة عشر ذي الحجة، إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى، تدلّ على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات، كثيرة الحسنات قليلة السيئات عالية الدرجات متنوعة الطاعات، وفضائلها لا تعد ولا تحصى.
فمن فضائلها أن الله تعالى أقسم بها فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، والله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات، كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان، كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يُقسم إلا بأعظم الأمكنة، كالقسم بمكة، وله أن يُقسم بما يشاء من خلقه، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقسم بها يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.
ومن فضائلها أن الله تعالى قَرَنَها بأفضل الأوقات، فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل. أما اقترانها بالفجر فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظلمة، والحركة بعد السكون، والقوّة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق. وقَرَنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر.
ومن فضائلها أن الله تعالى أكمل فيها الدينو اتم فيها النعمة ، إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين تنتصر السنة، وتنهزم البدعة، ويقوى الإيمان، ويموت النفاق ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان،. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حَبْر من أحبار اليهود لعُمَرَ : آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود اتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، قال عمر: (إني أعلم متى نزلت وأين نزلت، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة).
ومن فضائلها أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء التي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها، ولا يساويها سواها.
ومن فضائلها أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات، لقوله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))، وهذا يدل على أن العمل الصالح في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما؛ لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال.
ومن فضائلها أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب، فهو يوم مجيد، يُعرف أهله بالتوحيد، إذ يقولون: (لا إله إلا الله)، وقد قال: ((وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك...))، ويَعرِف الإنسان ضعفَ نفسه، إذ يُكثِر من الدعاء، ويُلِح على الله في الدعاء، وفي الحديث: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة))، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل مكان في صعيد واحد، ويعرف عدوّه الذي ما رُئِي أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه لغير الحاج، وهو يوم الحج الأعظم، قال: ((الحج عرفة))، وصومه تطوعًا يكفر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبلة.
ومن فضائلها أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النحر))، وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضًا.
وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح.وهنا يأت السؤال ماذا علينا أن نعمل لنغتم العشر ؟
أيها المسلمون، اغتنموا عَشْركم بصالح الأعمال، وفي مقدمتها التوبة إلى الله، وهي الرجوع إليه سبحانه مما يكرهه ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، ندمًا على ما مضى، وتركًا في الحال، وعزمًا على أن لا يعود.
وهي واجبة على المسلم حين يقع في معصية في أي وقت كان؛ لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، ثم إن السيئات يجرّ بعضها بعضًا، والمعاصي تكون غليظة ويزداد عقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا [التحريم:8].
ومن الأعمال المشروعة في أيام العشر الذكر، قال تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلأنْعَامِ [الحج:28]، هذا للحج ولمن لم يحج فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن فقراء المدينة جاءوا إليه يشكون من أغنياهم فقالوا يارسول الله لقد ذهب أهل التثور بالأجور والدرجات العلى والنعيم المقيم قال صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قالو يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ، وعندهم فضل من أموالهم فيتصدقون ولا نتصدق ويحجون ولا نحج فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكم على أمر إذا فعلتموه أدركتم من سبقكم ، وسبقتم من معكم ولم يأتي أحد بمثل ما فعلتم إلا رجل فعل فعلتكم قالوا بلى : قال : تسبحون الله ثلاث وثلاثين وتحمدون ثلاث وثلاثين وتكبرون ثلاث وثلاثين .
ويُكثر في هذه الأيام من قراءة القرآن، فإنه أفضل الذكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء. وليعلم المسلم بأن الذكر هو أحبّ الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبب الفلاح، وحفظ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يُذكر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، وفضائل الذكر كثيرة، قَرَنَه الله بالحج فقال: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، ولا يتقيّد بزمن ولا حال، أمر الله به على جميع الأحوال، فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ [آل عمران:191].
أخي الحبيب ، أكثِر في هذه الأيام من نوافل الصلوات، وحافظ على الرواتب منها
وأكثر من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البرّ، ويُضاعَف له الأجر، ويظلّه الله في ظلّه يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير، ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها باب من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيمًا رفيقًا، ويُزكَّى ماله ونفسه، ويُغفر ذنبه، ويتحرر من عبودية الدرهم والدينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخرته.
أكثر ـ يا عبد الله ـ من الصيام في أيام العشر، ولو صمت التسعة الأيام لكان ذلك مشروعًا؛ لأن الصيام من العمل الصالح.
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ من أراد أن يضحِّي فليُمسِك عن شعره وأظفاره وبشرته إذا دخلت العشر حتى يضحِّي، ففي صحيح مسلم أن النبي قال: ((إذا رأيتم هلالَ ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحّي فليُمسِك عن شعره وأظفاره حتى يُضحّي))، وفي رواية: ((فلا يمسّ من شعره وبشرته شيئًا)). وهذا النهيُ خاصٌّ بالمضحّي، أما من يُضحَّى عنه من أهل البيت فلا يدخل في هذا النهي، وحتى لو شاركوا ربَّ البيت في أضحيته.
فاتقوا الله سبحانه وعظِّموا شعائرَه تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة ن وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين
|