Checkout

خطب الجمـعة

faheemfb@gmail.com

11

      

 

     

 

     


بسم الله الرحمن الرحيم

رمضان 5 ــ ما بعد رمضان

 

كتبها: 

ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة

 

 

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وأصحابه وأحبابه الطيبين الطاهرين ،

أما بعد: فإن الإنسان يتقلب في دنياه بين فرح وسرور بحصول مطلوب، وبين حزن وأسى على وقوع مكروه أو فوات محبوب، وما كل أمر يستحق الفرح، كما أن الحزن قد يكون في غير محله.

ألا وإن من الفرح المحمود المشروع أن يفرح العبد بطاعة ربه وسيده، وأن يسر بانقضاء عبادة كاملة أداها تقرباً إلى الله تعالى، وفي مثل ذلك يقول الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، فمن أعظم نعم الله تعالى على عباده المؤمنين توفيقهم للطاعات وفعل الخيرات من صيام وقيام وقراءة للقرآن وصدقة وغير ذلك من وجوه البر والإحسان، ومن أعظم هذه النعم أن يبلغهم شهر رمضان، ذلك الموسم العظيم الحافل بالبركات والهدى والنور والفرقان, ذلك الموسم العظيم الذى تفتح فيه أبواب الجنان وتغلق فيه أبواب النيران, ولله فيه عتقاء من النيران نسأل الله أن يجعلنا منهم.

وكلنا فرحنا يوم العيد بالعيد، وهنأ بعضنا بعضاً، فعلام هذا الفرح؟ ألأنا ودعنا شهر الصيام الذي كان حائلاً بيننا وبين التمتع بالطيبات والحلال في نهار رمضان، لا وربِ، فما هذا شعور المؤمن، ولكنه فرح المسلم بإكمال عبادة عظيمة وقربة كبيرة، وقد جبلت النفوس على الفرح عند الظفر وانتهاء العمل على وفق مراد صاحبه، فنسأل الله تعالى القبول والرضا.

أيها المؤمنون، ها هو رمضان ولى وانصرم، كأنما هو طيف عابر مرَّ ولم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالى والأيام. وهكذا العمر يمر بنا ونحن لا نشعر.

أيها الأحبة، إن كان رمضان قد ودعنا فإن الأعمال الصالحة لا تودع، فمن ذاق حلاوة الصيام واستشعر ذلك المعنى العظيم المنشود من وراء تشريع الصيام، وهو تحقيق تقوى الله تعالى، فالباب مفتوح لمواصلة العمل، والصيام ليس قاصراً على شهر رمضان, فقد سن لنا رسول الله صيام ست أيام من شوال فقال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله)) وسن لنا أيضاً صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ((ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله)) رواه مسلم.

والأفضل أن يصوم الأيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر لحديث أبى ذر الغفاري عن أن النبي قال له: ((يا أبا ذر إذا صمت ثلاثة من كل شهر، فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر)) رواه أحمد والنسائي.

وسَنّ لنا أيضاً صيام يوم عرفة، وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية والباقية, وصيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية, وسَنَّ لنا صيام الإثنين والخميس من كل أسبوع، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يتحرى صيام الإثنين والخميس.

ومن استشعر حلاوة المناجاة مع رب العالمين في صلاته وسجوده وأبصر الأثر الجميل في الدعاء والإلحاح على الله تعالى بطلب المغفرة والعفو فليعلم أن ربه تعالى يناديه في كل وقت: (ادعوني أستجب لكم)، وهو سبحانه القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم. فقال رجل من القوم: إذا نكثر؟ قال: الله أكثر)) أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وقول السائل "نُكْثِرُ" أَيْ مِنْ الدُّعَاءِ لِعَظِيمِ فَوَائِدِهِ، وقوله : ((اللَّهُ أَكْثَرُ)) قَالَ الطِّيبِيُّ: أَيْ اللَّهُ أَكْثَرُ إِجَابَةً مِنْ دُعَائِكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ فَضْلُ اللَّهِ أَكْثَرُ أَيْ مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ فِي مُقَابَلَةِ دُعَائِكُمْ.

ومن تعطر فوهُ بتلاوة كلام ربه وأمضى ساعات طويلة خلال رمضان يتلو كتاب ربه حتى سهلت عليه القراءة واطمأن قلبه بذكر الله والتأمل في معاني القرآن الكريم، فدونه كتاب الله تعالى، وليكن له ورد يومي من القرآن الكريم، فقد كان ذا هدي السلف المستقر، ومن قرأ في كل يوم جزءاً فسيختم القرآن في شهر، ومن قرأ في كل يوم عشر صفحات لا تستغرق أكثر من عشرين دقيقة فسيختم في شهرين، ومن مضت أيامه ولياليه بلا تلاوة للقرآن فقد حرم نفسه خيراً كثيراً، فالحرف الواحد من القرآن يقابله حسنة، وهكذا، ومن أراد كثرة حسناته فعليه بكتاب الله، ومن أراد أن يكون القرآن شفيعاً له عند الله فعليه بالقرآن ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه)) وقد علمنا أن الشفيع كلما كان ذا شأن ومكانة كانت شفاعته أحرى بالقبول والإجابة إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـٰرَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30].

أما أنت، يا من قمت لربك مصلياً في الليل التراويح والقيام لوحدك أو مع المصلين، فقد صففت قدميك وقمت لربك وركعت وسجدت ودعوت الله وأتعبت بدنك، وشعرت بشيء من التعب، وربما استطلت صلاة إمامك، هل تذكرت يوم يقوم الناس لرب العالمين ؟ وهل استشعرت ذلك التعب والنصب الذي كان يلاقيه حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، فلقد صلى من الليل حتى تفطرت قدماه أي تشققت من طول القيام، هذا مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيا ترى ما حالنا نحن المساكين الضعفاء المفرطين، وهل تحسست أيها القائم في الليل تلك المعاني المطوية في قيام الليل التي أشارت إليها آيات كـريمة: وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا [الإسراء:79]، وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [الإنسان:25، 26]، فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء ٱلَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ [طه:130].

وهل علمت لم قال محمد عن عبد الله بن عمر وهو لا يزال شاباً في مقتبل عمره: ((نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)) وهذا النبي يقول: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

واعلم أيها الأخ الحبيب أن قيام الليل يحصل ولو بثلاث ركعات، وعلى قدر أهل العزم تأتي عزائمهم وهممهم.

عباد الله، للصدقة على المسكين والقريب أثر حميد، وفي بذل المال في البر لذة في العطاء وسعة في الرزق ووعد من الكريم سبحانه بالخُلف، فهل نستمر في هذا العمل الجليل ولو بالقليل، وواللهِ لو عقلنا كلام ربنا حقاً لكان لنا ولمالنا شأن، يكفي في ذلك قوله تعالى: وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً [المزمل:20]، ولكنها النفوس المجبولة على الشح والإمساك والخوف من الفقر: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

عباد الله، إن في الاستمرار على العمل الصالح بعد رمضان علامة على حب العبادة والتعلق بها، و هي قرينة واضحة على أن المسلم ضاعف العمل في رمضان رغبةً فيما عند الله تعالى، أما ذاك الذي انقطع اتصاله بالعبادات والقربات بعد رحيل رمضان فربما كان علامة على أنه صام وقام لما رأى الناس كلهم يصنعون ذلك، فالنفس تحب مشاكلة الناس وتنأى عن الشذوذ غالباً.

فلننتبه لهذا الأمر أيها المسلمون. واتقوا الله أيها المؤمنون واعمروا أيامكم وشهوركم وأعماركم كلها بما يقربكم من ربكم ويزيد في رصيدكم عند مولاكم، ولكل محفوظ خزائنه ودواوينه، وسيأتي يوم تظهر فيه تلك الودائع وتنشر الصحائف: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَءوفُ بِٱلْعِبَادِ [آل عمران:30].

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم     

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولعموم المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا، إنّه هو الغفور الرحيم .

 

 

والحمد لله رب العالمين