Checkout

خطب الجمـعة

faheemfb@gmail.com

10

      

 

     

 

     


بسم الله الرحمن الرحيم

وجاءت رمضان 3 ــ الرحمن (صفة الرحمة)

 

كتبها: الشيخ 

ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة

 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وأصحابه وأحبابه الطيبين الطاهرين ،

 

وبعد:

عباد الله ها نحن في ظلال هذا الشهر الكريم شهر البركات والخيرات والطاعات والرحمات والذي أخبر عنه الصادق المصدوق بأنه شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار، فالرحمن الرحيم، إسمان كريمان من أسماء المولى جل وتعالى، والرحمة صفته، صفة حقيقية تليق بجلاله سبحانه وتعالى، وهي صفة كمال لائقة بذاته كسائر صفاته العُلى.

قال الله تعالى في محكم تنزيل، في شأن ذكر هذه الصفة، أو ذكر شيء من آثارها على خلقه، قال تعالى: ((إنه هو التواب الرحيم)) وقال تعالى: ((إن الله بالناس لرؤوف رحيم))، وقال جل وتعالى: ((يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم)) وقال: ((فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم" وقال: ((واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود)) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدالة على صفة الرحمة.

عباد الله، إذا اضطرب البحر وهبت الريح العاصف نادي أصحاب السفينة: يا الله، وإذا وقعت المصيبة وحلّت النكبة وجثمت الكارثة نادى المُصاب المنكوب: يا الله، وإذا بارت الحيل وضاقت السبل وانتهت الآمال وتقطعت الحبال نادوا يا الله، فهو الملك وهو المهين وهو الرحيم جل وعلا .

إخواني، إن رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، هو الله لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، يقول سبحانه: ((وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء)) [الأعراف:156] فما من شيء إلا وقد وسعته رحمة الله تعالى، كل شيء دال على رحمة الله، كل شيء ينطق برحمة الله وينطق بألوهيته جل وعلا.

 

تأمل في نبات الأرض وانظــر          إلى آثار ما صـــنع المـليك

عـــيون مـن لجين ناظـــــرات           بأطراق كأنهـن الذهـب السبيك

على قطب الزبرجد شاهــدات           بــأن الله ليـس له شــريك

 

فهذه السماء بغير عمد ترونها من رفعها؟ وهذه الأرض من سطحها وذللها؟ المريض من عافاه؟ والأعمى في الزحام من قاد خطاه؟ الجنين في ظلمات ثلاث من يرعاه؟ الثعبان من أحياه والسم يملأ فاه؟ الشهد من حلاه؟ اللبن من بين فرث ودم من صفاه؟ الصخر من فجر منه المياه؟ الليل من حاك دجاه؟ الصبح من أسفره وصاغ ضحاه؟ الظالم من يمهله؟ الجبار من يقصمه؟ المظلوم من ينصره؟ المضطر من يجيبه؟ الملهوف من يغيثه؟ الضال من يهديه؟ الحيران من يرشده؟ العاري من يكسوه؟ الجائع من يشبعه؟ الكسير من يجبره؟ الأسير من يطلقه؟ الفقير من يغنيه؟

أنت أنت يا عبد الله من خلقك؟ من صوّرك؟ من شق سمعك وبصرك؟ من سوّاك وعدلك؟ من رزقك؟ من أطعمك؟ من آواك ونصرك؟ من هداك؟ إنه الله لا إله إلا هو وسع كل شيء رحمة وعلماً.

والله برحمته نشر هذه الرحمة بين عباده كما قال رَسُولَ: ((جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَه)) البخاري، وإنك لترى اللبؤة إذا شب حريق في وكرها تقذف نفسها في النار ما تريد إلا إنقاذ أولادها، ولو أهلكت نفسها، كل ذلك رحمة واحدة من رحمات الله تبارك وتعالى أنزلها في الأرض.

 

وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ سَبْيٌ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْقِي إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ: ((أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ؟ قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ فَقَالَ: لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا)) البخاري.

لذلك يقول رَسُولَ اللَّهِ: ((لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ)) مسلم.

وأوسعُ صفاته جل وعلا رحمته، وأوسع المخلوقات عرشه، فلما استوى على عرشه كتب على نفسه يوم استوائه على عرشه كِتَابِاً فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي.

يقول تعالى مرغباً عباده برحمته: ((قُلْ يٰعِبَادِىَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ)) [الزمر:53]. فخاطبهم الله بـ(يا عبادي) تأليفاً لقلوبهم وتأنيساً لأرواحهم.

وبرحمته أرسل الرسل وأنزل الكتب، ويسر على عباده وبعث فيهم محمداً ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ٱللَّهِ لِنتَ لَهُمْ)) [آل عمران:159] علمنا من الجهالة وهدانا من الضلالة، وبرحمته عرّفنا من أسمائه وصفاته وأفعاله ما عرفنا به أنه ربنا ومولانا.

 

وهكذا يبين الله سبحانه على لسان نبيه أنه كل ليلة ينزل إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل يقول: ((أنا الملك أنا الملك، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ)). والناس نيام، العاصون نيام، وهم فقراء إلى الله وهو لا ينام، وهو الغني عنهم يناديهم هل من مستغفر فأغفر له، يا لها من رحمة عظيمة، وصدق الشاعر إذ يقول:

 

يــا بني آدم توقـر                وتجمل وتصـبر

ساءك الدهر قليــلا                وبما سرك أكـثر

يا كبير الذنب عفو الله               مـن ذنبك أكـبر

أكبر الآثام من أصغر                عفو الله أصغــر

ليس للإنسان إلا مـا                قضى الله وقــدر

 

فمن يعطي مثل الله؟ ومن يرحم مثل الله؟ ومن يغفر الذنوب مثل الله؟ فيا حسرة الفارين عن ربهم، ويا حسرة المعرضين عن مولاهم.

كل هذا ليملأ في نفس المؤمن الطمأنينة إلى رحمة الله، والتي تملأ القلب بالثبات والصبر، وبالرجاء والأمل، والتي تستجيش في حس المؤمن الحياء من الله.

أيها المسلمون، عباد الله: يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كلام نفيس له ،وهو يتكلم عن آثار رحمة الله فيقول: فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة. فبرحمته أرسل إلينا رسوله صلى الله عليه وسل  وأنزل علينا كتابه، وعلمنا من الجهالة، وهدانا من الضلالة، وبصرنا من العمى، وأرشدنا من الغي، وبرحمته عرّفنا من أسمائه وصفته وأفعال، ما عرّفنا به أنه ربنا ومولانا، وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم، وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا، وبرحمته أطلع الشمس والقمر، وجعل الليل والنهار، وبسط الأرض وجعلها مهاداً وفراشاً وقراراً وكفاتاً للأحياء والأموات، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر ،وأطلع الفواكه والأقوات والمرعى، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل والأنعام، وذللها منقادة للركوب والحمل والأكل وبرحمته، وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها، وكذلك بين سائر أنواع الحيوان، فهذا التراحم الذي بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته، واشتق لنفسه منها اسم الرحمن الرحيم وأوصل إلى خلقه معاني خطابه برحمته، وبصرهم ومكن لهم أسباب مصالحهم برحمته.

والحمد لله رب العالمين