خطب الجمـعة |
![]() |
|
204 |
بسم الله الرحمن الرحيم
إرضى واقنع بما قسم الله لك
كتبها: الشيخ عبد الرزّاق طاهر فارح
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
20 رجب 1439 هـ
06 أبريل 2018 م
أحبتي في الله ،،
روى الترمذي في سُنَنِه والحديث حسن، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلس النّبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال للصَّحابة: {من يأخذ عنِّي هؤلاء الكلمات فيعمل بِهِن أو يُعَلِّم مَن يعمل بهن؟}. فقال أبو هريرة: فقلت أنا يا رسول الله. فأخذ بيدِي فعدَّ خمساً وقال: {إتَّقِ المحارم تكن أعبد النّاس. وإِرْضَ بما قَسَمَ الله لك تكن أغنى النَّاس. وأحسِنْ إلى جارك تكن مؤمناً، وأحِب للنّاس ما تُحب لنفسك تكن مُسْلماً، ولا تُكْثِر الضحك، فإنَّ كثرةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ القلب}. هذه وصيّة المعلم الأوّل للطالب النّجيب أبي هريرة رضي الله عنه. ووصيته له وصيَّةٌ للأمّة بأسرها. لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب.
نتحدث في هذه الجمعة عن النقطة الثانية من هذه الوصية العظيمة. "وارضى بما قسم الله لك تكن أغنى الناس". أي إقنع بما أعطاك الله تكن أغنى النّاس. إذاً ليس حقيقةُ الغنى كثرة المال، لأن كثيراً ممن وسع الله عليه فيم المال لا يغنع بما أوتي. فهو يجتهد في الإزدياد، ولا يبالي من أين يأتيه. فكأنّه فقير لشدّة حرصه.
وإنَّما الغِنَى غِنَى النفس. والمتصف بِغِنَى النفس يكون قانعا بما رزقه الله. لا يحرص على الإزدياد لغير حاجة، ولا يُلحِفُ في السؤال. بل يرضى بما قسم الله له. فكأنّه واجدٌ أبداً. والمتَّصِفُ بفقر النفس على الضِّدِ منه لكونه لا يقنع بما أُعطي. بل هو أبداً في طلب الإزدياد من أيّ وجه أمكنه. ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف. فكأنَّه فقيرٌ من المال، لأنّه لم يستغن بما أُعطي. فكأنّه ليس بغّنِّي. روى البخاري ومسلم من حديث إبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليس الغِنَى عن كثرة العَرَضِ (أي متاع الدنيا وحُطامها)، ولكن الغِيَى غِنَى النَّفس.} (أي لا يكون للنفس طمعٌ إلى ما في أيدي الناس). الغَنِيُّ هو القنوع. وقد فسَّر بعض أهل العليم قول الله جلَّ وعلا: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 16:97 أي القناعة. لذا قيل "القناعة كنزٌ لا يفنى" لأنها تنشأ من غِنَى القلب بقوة الإيمان ومزيد الإيقان. ومَنْ قَنَعَ أُمِدَّ بالبركة. فليس الغِنَى بكثرة متاع الدنيا ولا بالأموال ولا بالمناصب ولكن بالرِّضا بما قسم الله.
وفي الحديث الصحيح: {إنَّ الله يُحب العبد الغَنيَّ التَّقيَّ الخفيّ}. والغَني هنا: غَنيَّ القلب كما ثبت في حديث آخر أنذه صلى الله عليه وسلم قال: {اللهم إجعل غِناه في قلبه}. وارض بما قسم الله لك تكن أغنى النّاس. وتذكر قول النَّبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه الترمذي، وحسَّنه الألباني: {من أصبح منكم آمناً في سِربِه، مُعافىً في جَسَدِه، عنده قُوت يومِه فكأنَّما حِيزت له الدنيا}. فارضى بما قسم الله لك تكن أغنى النّاس. وتذكر قول النّبي صلى الله عليه وسلم: {قد أفلح من أسلَمَ وكان رِزقُه كَفَافاً وقَنَّعَهُ الله}. رواه إن ماجة وصحّحه الألباني. فارضى بما قسم الله لك تكن أغنى النَّاس. إرضى بأهلك، وبدخلك، وبمركبك، وبأبنائك، وبناتك، وبوظيفتك. أي شيئ كان عندك، كثُرَ أو قَلَّ. تُصبحُ من أغنى النّاس، تجد السعادة والطمأنينة. وكذلك بيَّن النّبي صلى الله عليه وسلم أن القناعة سببٌ من أسباب كثرة الشكر. والحديث حسنٌ لغيره من حديث أبو هريرة رضي الله عنه: {كن ورِعاً تكن أعبد النّاس، وكن قنِعاً تكن أشكر الناس، إرضى بما قسم الله لك تكن أغنى النّاس}.
لماذا تكون أغنى النّاس إذا رضيت بما قسم الله لك؟ السبب أن من قَنَعَ، إستغنى عن كلُّ شيئ.
فليس الغِنى بكثرة المال، ولا بكثرة الولد، ولا بكثرة الجاه، لكن غِنَى النَّفس والقناعة هما غِنىً وعِزٌّ بالله. وعدم القناعة فقرٌ وذلٌّ للغير. ومن لم يقتنع، لم يَشْبَع أبداً. فإذا رأيت من هو أكثر منك مالاً وولداً، فاعلم أنَّ هناك من أنت أكثرُ منه مالاً وولداً. فانظر إلى من أنت فوقه، ولا تنظر إلى من هو فوقك. ولذلك أرشدنا المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: {أنظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنّه أجدر أن لا تزدروا نِعمة الله عليكم}.
فاعلم مهما إفتقرت فإنّ هناك من هو أفقر منك، ومهما إشتد بك المرض فإنَّ هناك من هو أشدُّ مرضاً منك. وأنّه بمقدار رِضاك بما قسم الله لك تكن أغنى النّاس.
وقال الشاعر: النفس تجزع أن تكون فقيرةً *** والفقر خيرٌ من غِناً يطغيها
وقال آخر:
هي القناعة فالزمها تكن مَلِكاً *** لو لم تكن لك إلا راحةَ البدنِ
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها *** هل راح منها بغير الطيب والكفن
وقال الشافعي: "إذا كنت ذا قلبٍ قَنُوعٍ، فأنت ومالِكِ الدنيا سواءٌ"
أَقُولُ قُولِيَ هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ فَاسْتَغْفِرُوهُ.