خطب الجمـعة |
|
|
29 |
بسم الله الرحمن الرحيم
صفات عباد الرحمن ـ 5 ـ لا إسراف ولا تقتير بل إعتدال في البذل
كتبها : ش عمر علي
ترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة
01 01 1400 هـ
01 01 2000
لازلنا نعيش في رحاب القرآن مع عباد الرحمن الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، والذين وصفهم الله تعالى في سورة الفرقان. وصف حالهم في أنفسهم، ووصف حالهم مع النَّاس، وصصف حالهم معه سبحانه. ثم وصف حالهم في أموالهم فقال تعالى:
{والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يُقتروا وكانوا بين ذلك قواماً}
فليس من المفترض في عباد الرحمن أنهم قومٌ لا مال لهم. لا ليس الفقر من خصائص هذه العبودية للرحمن. فقد يكونونن أغنياء.
وقد وصف الله رُوَّاد المساجد، رُوَّاد البيوت التي أَذِنَ الله أن تُرفع ويُذكر فيها اسمه، فقال: {يُسبِّح له فيها بالغدو والآصال * رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيع عن ذكر الله}. فهم بلغة العصر رجال أعمال لهم تجارة ولهم بيع، ولكن ذلك لا يشغلهم عن واجبهم نحة ربِّهم.
وخاطب الله المؤمنين بقوله: {يأيها الذين ءامنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله}. ومعنى هذا أنَّ لهم أموالاً وأولاداً، وليسوا رهباناً ولا دراويش. ولكنهم مأمورون ألاّ تلهيهم أموالهم ولا أولادهم عن ذِكر الله. ذِكره بالقلب وذِكره باللسان. فعباد الرحمن لا بأس أن يكون لهم أموال، والمال في نظر الإسلام نعمة يجب أن تُشكر. وهو في نظر الإسلام أمانة يجب أن تُرعى، وهو في نظر الإسلام ضرورة ـ من الضروريات الخمس ـ يجب أن تُحفظ.
والمسلم في ماله مستخلف. هو في الحقيقة مال الله، وهو أمين عليه، خليفة عليه، ولهذا قال الله تعالى: {.. وأنفقوا ممّا جعلكم مستخلفين فيه ..} الحديد 7. وإذا كان المال مال الله، والإنسان مستخلفاً فيه كأمين الصندوق، فيجب عليه أن يُراعي تعليمات صاحب المال وتوجيهاته: ماذا يُريد منه؟ وماذا يُرضيه؟ وماذا يُسخطه؟ وماذا يأمر به؟ وماذا ينهى عنه؟
ولله تعالى تعليمات في شكل المال!
تعليمات تتعلق باكتسابه، أي يُكتسب من حلِّه، ومن وجوهه المشروعة. وتعليمات تتعلق بتنميته، وتعليمات تتعلق بإنفاقه واستهلاكه وتوزيعه. والآية التي معنا ركَّزت على معنى معيَّن مهم هو: كيف يُنفق المال؟
فقد يُجمع من حلِّه، قد يكتسبه الإنسان من وجوهه المشروعة، ولكنه بعد ذلك يبخل به عن حقِّه. يشحُّ به أن يبذله لما يُحب الله تعالى ويرضى. أو يُتلفه ويُبعثره ذات اليمين وذات الشمال.
والأمّة الإسلامية قد تُصاب في أغنيائها من وجهين:
إمَّا أن تُصاب من ناحية ذلك الغنيُّ الشحيح الذي لا يعرف لله حقا. ولا يعرف في ماله للنَّاس حقاً. فهو يبخل به عن كلُّ واجب.
وإمَّا أن تُصاب من ناحية ذلك الغنيّ المتلاف المبذِّر الذي لا يُبالي أين يذهب المال؟ يبذله هنا وهناك، لا يقف عند حدٍ، ولا يقف عند شرع.
لكن المال ينبغي أن يُنفق في وجوهه المشروعة بلا إسرافٍ ولا تقتير. هذا هو خلق الإسلام: القصد والإعتدال.
ولذلك جاء في آية أخرى من وصايا القرآن {وآت ذا القربى حقَّه والمسكين وابن السبيل، ولا تُبذِّر تبذيراً * إنَّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين}. شبَّه الله المبذرين بالشياطين في الشرِّ والمعصية والجحود بنعمة الله. وفي تكملة الآية {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً}. فإنّك إذا أسرفت قعدت محسوراً وإذا بخلت قعت ملوماً. وأنت ملومٌ محسور على كل حال إذا لم تتبع أمر الله ونهيه. هذا هو القصد والإعتدال. هذا هو دستور الإسلام.
كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يسأل الله ويقول: {اللهم أسألك خشيتك في الغيب والشهادة. وأسألك كلمة الإخلاص في الغضب والرضى. وأسألك القصج في الفقر والغنى} رواه النسائي والحاكم. والقصد هنا هو: الإقتصاد والإعتدال.
روى الإمام المبرار من حديث حذيفة أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: {ما أحسن القصد في المغنى، ما أحسن القصد في الفقر، وأحسن القصد في العبادة}.
إذاً فعباج الرحمن معتدلين في النفقة. ليسوا بمبذِّرين في أنفاقهم. فينفقون فوق الحاجة. ولا بخلاء على أهلهم فيقصِّرون في حقهم، بل عدلاً خياراً. وخير الأمور أوسطها.
قال الحسن البصري: ليس في النفقة في ليل الله سرف. وقال غيره إنما السرف النفقة في المعصية.
فعباد الرحمن منهجهم الوسطية في الإنفاق والإعتدال. روى الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: {من فقَّه الرجل رفقه في معيشته}.
والإسلام أيها الإخوة يطلب من المسلم الإنفاق. ومن صفات المتقين أنهم ينفقون. ولكن الله حينما وصف المتقين في مطلع سورة البقرة قال: {... ومما رزقناهم ينفقون ...}. أي ينفقون بعض ما رزقهم الله. وليس كل ما رزقهم الله.
ومن هنا جاء في الحديث: {لا صدقة إلا عن ظهر غِنىً}. فلم يطلب منّا الإسلام أن ننفق مما نحتاح إليه. من فعل هذا إيثاراً فهذا فضيلة وليست فريضة. كالذين مدحهم الله تعالى في كتابه: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، ومن يوقَ شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون}. والأبرار الذين أثنى عليهم فقال: {ويُطعمون الطعام على حبِّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً}. يحبُّون الطعام، ويتوقون إليه، وهم في حاجة إليه. ولكنهم يبذلونه لله: {إنّما نُطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}
هذا هو شأن عباد الرحمن، الإنفاق من غير إسراف ولا تقتير. إذا أنفق المسلم لا يُسرف .. لا يضيِّع المال فقد نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم "عن إضاعة المال". أي درهم أو دينار في يدك ثق أنّه ليس لك. إنّه للأمَّة كلها. إذا ضيَّعته في غير حق فقد ضيَّعته على نفسك، وضيَّعته على الأمّة الإسلامية.
ولهذا فالذي يُنفق ماله في شُرب الدخان (تدخين السجائر) مثلاُ، يضيِّع هذا المال على نفسه، وعلى الأمّة. يضر نفسه بِحُرِّ ماله. يشتري ضرره بماله. ويا تُرى لمن يدفع هذه الأموال؟ لشركات التدخين العالمية الإستعمارية!
المال أيها الإخوة نِعمة على المسلم أن يُحافظ عليها. كم من مشروعات إسلامية وخاصة في بلاد الغرب حيث يعاني المسلمين من التهميش والضَّياع وذوبان الأجيال في المجتمعات الغربية، وعندما يقوم المخلصون من أبناء الجاليات الإسلامية بتبنِّي مشروعات تعليمية أو تربوية لا يجدون من يُموِّل هذه المشروعات؟ تريد أن تقوم بإفتتاح مدرسة إسلامية فلا تجد من يُموِّل ذلك؟ نريد أن نشتري هذا المسجد ونحتاج للمال ولا نجد من يموِّل؟ وغير ذلك وغير ذلك.
لماذا أيها الإخوة ألِقِلّة المال لدى المسلمين؟ لا والله، المال كثير، ولكنه يُنفق للأسف في غير وجهه.
كم من أناس ينفقون الألوف، وعشرات الألوف، ومئات الألوف في غير ما يُرضي الله تبارك وتعالى. فإذا طلبت منهم شيئاً لله كفّوا أيديهم وشحّت أنفسهم؟!
ولا عجب أن وصف لنا القرآن قوماً من النّاس حينما قال: {.. إنّ الله لا يُحب من كان مختالاً فخوراً * الذين يبخلون ويأمرون النّاس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً * والذين ينفقون أموالهم رئاء النّاس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً} النساء 36-38.
أنظروا وصفهم بالبخل. البخل في أنفسهم. وتحريض الآخرين على البخل. ووصفهم في نفس الوقت بأنهم ينفقون أموالهم رئاء النّاس. أي في المظاهر الزائفة. أموالٌ تضيع هنا وهناك، ولا تُنفق في سبيل الله ولا فيما يُرضي الله.
إنّ من صفات عباد الرحمنن أنهم {إذا أنفقوا} {لم يُسرفوا ولم يقتروا}. إنهم معتدلون في كل شيء. والإعتدال خلق من أخلاق الإسلام. مرَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على سعد وهو يتوضّأ فقال له: {لا تُسرف في الماء}. فقال: وهل في الماء إسراف؟ قال: {نعم، وإن كننت على نهرٍ جارٍ}. حتى لو توضّأت من نهرٍ تجري مياهه، ولا يضرّ النهر إن أخذت منه أو زدت، ولكن ليكن هذا خلقاً لك. سِمَةً من سمات شخصيتك.
هذه هي أخلاق عباد الرحمن. نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا منهم. إنّه سميع قريب.
والحمد لله رب العالمين
faheemfb@gmail.com فهيم أبوخـطـوة ،، البريد الإلكتروني