Checkout

خطب الجمـعة

faheemfb@gmail.com

 27


   


بسم الله الرحمن الرحيم

صفات عباد الرحمن ـ  3 ـ يبيتون لربهم سجّدا وقياما   

  

كتبها : ش   عمر علي

ترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة

 

01 01 1400 هـ

01 01 2000

  

أمَّا بعد ، فيا أيُّها الإخوة المسلمون،،

 

لازلنا نعيش مع عباد الرحمن، مع هذه اللوحة القرآنية التي رسمها الله تبارك وتعالى لعباده. لِيُصَوِّر لنا فيها نموذجاً من النماذج الراضية المرضية عند الله تبارك وتعالى. يقول الله عزَّ وجل: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرضِ هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. والذين يبيتون لربِّهم سُجَّداً وقياماً}.

 

حدثنا الله تعالى عن حالهم في أنفسهم، وحالهم (التواضع) لا الفخر ولا الكبرياء: {يمشون على الأرضِ هَوناً}. وحدثنا عن حالهم مع النَّاس. وهي حالة من لا يشغَل نفسه بالسفهاء، ولا يخاطب الجاهلين إلا سلاماً: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً}.

 

وهو هنا يحدثنا عن حالهم مع ربِّهم. وتنجلي حالهم هذه في جنح الليل. إذا أرخي الليل سدوله، إذا أوى النَّاس إلى فرشهم ولحفهم، كان لهم حال مع الله: {يبيتون لربهِّم سُجَّداً وقياماً}. والخلِيُّون هُجَّعٌ، والنّاس في غفلاتهم نائمون، أو في سهوهم ماجنون، أو في مجونهم ساهرون.. هناك {يبيتون لربهِّم سُجَّداً وقياماً}.

 

إنهم في ليلهم بين سجودٍ وقيام. وهذه أظهر حال الصلاة. السجود والقيام {أقرب ما يكون العبد من ربِّه عزَّ وجل وهو ساجد، فأكثروا الدُّعاء} رواه مسلم.

 

وُصِفُوا بالسُّجود حيث يضعون جبهاتهم على الأرضِ لله تبارك وتعالى. هذه الجباه التي علت وارتفعت فلا تنحني لمخلوقٍ، إنَّما تنحني لله سبحانه وتعالى. راكعة ساجدة، خاشية خائفة، طامعة في رحمة الله عزَّ وجل.

 

{يبيتون لربهِّم سُجَّداً وقياماً} فهو بين سجودٍ وقيام. يقومون يتلون كتاب الله، يقرأون كتاب الله، يسألونه الرحمة ويستعيذون به من النَّار.

 

إنهم يبيتون لله، يبتغون وجهه، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، وصدق الله العظيم حينما وصف أمثال هؤلاء فقال: {أمَّن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربِّه. قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} الزمر 9. هذا هو العلم، العلم بما أعدَّه الله لعباده الصالحين في الآخرة من نعيم. وما أعدَّه للآخرين من عذابٍ أليم.

 

{يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربِّه}: كان لبعض السلف غلام أو خادم عندهم، فكان يقوم الليل. فقال له مولاه (سيِّده): إنَّ قيامك بالليل يؤثِّر على عملك في النَّهار. قال: وماذا أعمل؟ إنِّي إذا تذكّرت الجنَّة طال شوقي، وإذا تذكّرت النَّار طال خوفي. فكيف لي أن أنام بين خوفٍ يزعجني وشوقٍ يقلقني؟ّ!

 

هؤلاء هم الذين {تتجافى جنوبهم عنِ المضاجع، يدعون ربّهم خوفاً وطمعاً وممَّا رزقناهم ينفقون} السجدة 6. رغم أنَّ المضجع هنيئ، والفراش ليِّن، فإنَّهم يَدَعُونَ كلُّ ذلك لله.

 

روى الإمام أحمد عن إبن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:{عجب ربّنا تعالى من رجلين: رجل ثّارَ عن وِطَائه ولحافه من بين أهله وحِبِّهِ إلى صلاته، فيقول الله جلّ وعلا: أنظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حِبِّهِ وأهله إلى صلاته رغبةً فيما عندي. ورجلٌ غزا في سبيل الله، وانهزم أصحابه، وعلم ما عليه في الإنهزام، وما له في الرّجوع، فرجع حتى يهريق دمه. فيقول الله: أنظروا إلى عبدي رجع. رجاءً في ما عندي، وشفقةً ممَّا عندي حتى يُهريق دمه}.

 

الخوف والطّمع. أو الرغبة والشفقة. الرغبة فيما عند الله من المثوبة، والشفقة مما عنده من العقوبة. هو الذي جعله يترك الفراش الليِّن والمضجع الطيِّب إلى الله عزَّ وجل.

 

الرجل الآخر الذي غزا الله، وحينما رأي أصحابه انهزموا وعلم مال في الرّجوع وما عليه من الفرار. رجع وقاتل حتى اهريق دمه. يعجب الله منه ويباهي به ملائكته.

 

كلاهما مجاهد، كلاهما مكابد. هذا جاهد النفس حتى أهراق دمه في مرضاةِ الله. وهذا كابد الليل وقام يرضي الله عزّ وجل.

 

الله عالى وصف المتَّقين بقوله {إنَّ المتّقين في جنَّاتٍ وعيون * آخذين ما آتاهم ربُّهم . إنّهم كانوا قبل ذلك محسنين * كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون} الذَاريات 15-18. قلَّ هجوعهم وقلَّ نومهم بالليل وفي آخر الليل يستغفرون. يشعرون بالتقصير رغم قيامهم ومكابدتهم لليل وطوله. وبأنَّهم مفرِّطون في جنب الله، مقصِّرون في حقِّ الله. فيطلبون المغفرة من الله عزّ وجل.

 

كان بعض السل يقوم من الليل حتى إذا جاء السحر قال: يا رب إنَّ مثلي يستحي أن يسألك الجنّة. فأسألك برحمتك أن تجيرني من النَّار. يرى أنَّه ليس أهلاً لأن يطلب الجنَّة فحسبه أن يسأل النّجاة من النَّار! هؤلاء هم الذين حدا بهم الخوف والطمع. الخوف ممَّا عند الله، والطمع فيما عند الله. إلى أن يصِفُّوا أقدامهم لله راكعين ساجدين. يناجونه قائلين:

 

تسهر العيون لغير وجهك باطلٌ           وبكاؤهنَّ لغير فقدك ضائع

 

توفّى سيد الصوفية في عصره، وشيخ المربِّين الروحيين: الجنيد رحمه الله. فرآه بعض أصحابه في المنام. فسأله عن حاله فقال له: ذهَبَتْ الإشارات، وطاحب العبارات، وضاعت العلوم، وفنيت الرُّسوم ولم ينفعنا إلا رُكيعات كنّا نقوم بها في جوف الليل. هؤلاء هم قُوَّامُ الليل، تتجافى جنوبهم عن المضاجع.

 

أرواحهم خـشعــت لله في أدبٍ             قلــوبهم من جلال الله في وجلٍ

نجواهم: ربَّنا جـئـناك طائعــة              نفـوسنا، وعصينا خادع الأمـل

إذا سجى الليل قاموه وأعينهم               من خشية الله مثل الجاد الهطِل

همُ الرِّجال فــلا يلهــيهمُ لعب              عن الصّـلاة ولا أكذوبة الكسل

 

{والذين يبيتون لربهِّم سُجَّداً وقياماً}. إمخك رجال مدرسة الليل. {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون}. وإذا انتصف الليل في القرون الأولى كانت أصوات المؤذِّنين ترتفع تنادي:

 

يا رجال الليل جُدُّوا                رُبَّ صوتٍ لا يُرَدُّ

ما يقوم الليلَ إلاّ                    من له عزمٌ وجِدُّ

 

هناك من يقضي الليل في طاعة الله.وهناك آخرون يقضونه في نوم إلى الصّباح. وهناك من يسهرون الليل ولكن فيما يُسهِرُون الجفون؟ وفي أيّ حالٍ يعيشون؟ إنَّ هناك من يسهر في اللهو والمجون. هناك من يسهر في لهوٍ وعبثٍ حتى قُرِبَ الفجر. فإذا قَرُبَ الفجر نام ولم يقم إلا في الضحى أو في الظهر.

 

هناك من يبيت ليله ليلاً أحمراً في شهوات ومنكرات. يعبّ من الشهوات، ويقارن المنكرات. لا يخشى خالقاً، ولا يستحي من مخلوق. هناك من يقضي الليل في إجرام، يُبَيِّتُ المكايد والشرور والأذى للنّاس.

 

وهناك من لا همَّ له إلا الأكل والشرب والنوم. فنهاره شرابٌ وطعام. وليله رقومٌ ومَنام على نحو ما قال القائل:

 

إنَّما الدنيا طعامٌ           وشـــرابٌ ومـــنام

فإذا فاتك هـــذا            فعلى الدنيا السلام

 

هذه أنواع من الليل لأصنافٍ من النَّاس. وأمّا ليل هؤلاءِ فهم: {يبيتون لربهِّم سُجَّداً وقياماً}.

 

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفته عائشة: "يقوم من الليل حتى تنفطر قدماه". أي تتشقق وفي بعض الروايات: "حتى تتورَّم قدماه". فقالت له: لِمَ تصنع هذا وقد غُفِر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر". قال:{أفلا أحِبُ أن أكون عبداً شكوراً} البخاري.

 

دخل عليها (أي على عائشة) يوماً عُبَيد بن عمير وعطاء ابن أبي رباح فسألاها: أخبرينا بأعجب شيئ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فسكتت ثم قالت: لمّا كان ليلةً من الليالي قال: {يا عائشة دعيني أتعبَّد الليلة لربِّي}. قلت: والله إنِّي أحبُّ قربك، وأحب ما يسرُّك. قالت: فقام فتطهَّر ثمَّ قام يُصلي. قالت فلم يزل يبكي حتى بلّ حجره. قالت وكان جالساً فلم يزل يبكي صلى الله عليه وسلم حتى بلّ لحيته. قالت: ثم بكى حتى بلّ الأرض، فجاء بلالٌ يؤذنه بالصلاة، فلمّا رآه يبكي قال: يا رسول الله، وتبكي وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ لقد نزلت عليَّ الليلة آيةً، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّر فيها. {إنَّ في خلق السموات والأرض لآيات لقومٍ يتفكّرون} الآية كلها آل عمران 190.

 

هكذا كان ليله صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان أصحابه. كانوا يشمِّرون عن ساعدهم. كانوا يحاولون أن يقوموا الليل كلّه. وكان منهم من لا يكتفي بقيام نصف الليل أن ثلثيه ويريد أن يقوم الليل كله. والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يحاول أن يردهم إلى الإعتدال حتى يدوموا عليه. فــ{أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قَل}.

 

كانت أشواقهم عالية، وكانت هِمَمَهم رفيعة. فلم يكونوا يقتصرون على الفريضة، بل كانوا يحبُّون أن يتنفَّـلوا، وأن يستزيدوا، وأن يُكثروا من رصيدهم عند الله عزّ وجل. هكذا كان سلف هذه الأمّة.

 

مرَّ أبو حنيفة، وكان يقوم بعض الليل، على قومٍ فقال بعضهم وأشار إليه: هذا هو الرَّجل الذي يُحيِي الليل كله. فقال: والله إنِّي لأستحي من الله أن أوصف بما لا أفعل. فكان بعد ذلك يُحيِي الليل كله.

 

وكان منهم من يقوم جزءاً منه، وهذا هو الأوفق للسُنَّة والأرفق للبدن. قال النبي صلى الله عليه وسلم {أَحَبُّ الصلاة إلى الله صلاة داوود، وأحَبُّ الصِّيام إلى الله صيام داوود. وكان ينام نصف الليل وقوم ثلثه، وينام سدسه ...}. أي ينام الجز الأخير من الليل حتى يقوم بنشاط.

 

فهؤلاء هم عباد الرحمن. كانوا حريصين على جوف الليل، كما جاء في الحديث: {أفضل الصلاةِ بعد المكتوبة الصلاة في جوفِ الليل}.

 

وقد ورد أنّه سبحانه وتعالى ينزل إلى عباده ويتجلّى عليهم في الثلثِ الأخير من الليل ويناديهم: هل من داعٍ فأستجيبُ له؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ هل من سائل فيُعطى سؤاله؟ هل من كذا.. هل من كذا.. حتى يطلع الفجر.

 

إنَّها ساعات الأسحار .. ساعات التجلي: {أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر. فإن استطعت أن تكون ممن في تلك الساعة فكن}.

 

أيها الإخوة المسلمون،، ومن لم يستطع أن يكون له حظ من الليل، لا نصف ولا ثلث، ولا سدس، فيحرص على أن يصلى العشاء في جماعة ، والصبح في جماعة. فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله}.

 

ومن لم يفعل ذلك، مَنْ كان أدنى مِنْ هذه المنازل، فليحرص على الصلوات في أوقاتها، ولا يضيِّع الصلاةَ حتى تُشرِق عليه الشمس وهو نائم.

 

ذُكرعند النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ نام ليلة حتى أصبح. قال: {ذاك رجلٌ بال الشيطان في إذنيه}. قال الحسن: إنَّ بوله والله لثقيل. وما أكثر الذين جعلوا من آذانهم مباول للشيطان!

 

ورد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: {يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم، إذا هو نائم، ثلاث عُقَد. يضرب على كلُّ عقدة. عليك ليل طويل فارقد، فإن إستيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة. فإن توظأ انحلت عقدة. فإن صلى أنحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيِّب النفس. وإلا أصبح خبيثُ النفسِ كسلان}. لا زالت عُقَد الشيطان على رأسه. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فحلّوا عُقَد الشيطان ولو بركعتين}. هكذا يريدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نستسلم للشيطان.

 

{والذين يبيتون لربهِّم سُجَّداً وقياماً} فمن كان يريد أن يكون منهم فعليه أن يتشبه بهم. فتشبهو إن لم تكونوا مثلهم. إنّ التشبّه بالرجال فلاح.

عليه أن يتذكر الآخرة، وأن يتذكر الموت، وما بعده.

عليه أن يتذكر الجنَّة والنَّار

قال طاووس إن ذكر جهنم طيَّر النوم من أعين العابدين

على الإنسان أن يحذر الآخرة، ويرجو رحمة ربِّه

يقول صلى الله عليه وسلم {عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم. وقربة إلى ربِّكم، ومكفِّرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم}.

 

الله وصف عباده بأنهم {يبيتون لربهِّم سُجَّداً وقياماً}، لم يصفهم بأنهم يحافظون على الرائض فهذه منزلة دون منزلتهم، وهم أعلى منزلة من ذلك وأرفع.

 

قال عبد الله بن سلام: أوَّل ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل النَّاس إليه (أي أسرعوا إليه) فكنت فيمن جاءه. فلمّا تأملت وجهه واستبينته عرفتُ أنَّ وجهه ليس بوجه كذّاب. فكان أوّل ما سمعت من كلامه أن قال: {أيها النّاس افشوا السلان، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والنّاس نيام تدخلوا الجنّة بسلام}.

 

نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء، إنَّه سميع قريب.

 

 

والحمد لله رب العالمين


faheemfb@gmail.com   فهيم أبوخـطـوة ،، البريد الإلكتروني