Checkout

خطب الجمـعة

faheemfb@gmail.com

 26


   


بسم الله الرحمن الرحيم

صفات عباد الرحمن ـ  2 ـ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما

   

كتبها : ش  عمر علي

ترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة

 

01 01 1400 هـ

01 01 2000

   

أما بعد ،، فيا أيها الإخوة المسلمون ، كنّا تحدثنا في جمعة ماضية عن صفات عباد الرحمن الذين ذكرهم الله عالى في أواخر سورة الفرقان. وتحدثنا عن الصفة الأولى من صفاتهم وهي أنهم {يمشون على الأرض هوناً}.

 

ثم ذكر الله الصفة الثانية من صفاتهم فقال: {... وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ..}. صفتهم في أنفسهم: التواضع، أنهم هيِّنون ليِّنون، متواضعون غير مستعليين ولا مستكبرين. وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله.

 

والصفة الثانية: حالهم مع النّاس وخاصةً مع أهل الجهل والسفه! {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}.

 

قالوا قولاً يسلمون فيه من الإثم، ويسلمون فيه من اللوم، ويسلمون فيه من سوء العاقبة. لا يردُّون على السيِّئة بالسيِّئة. وإن كان هذا من حقِّهم، وإن كانوا يقدرون على أن يكيلوا الصاع صاعين. وأن يردُّوا اللطمة لطمتين. ولكنهم لا يشغلون أنفسهم بالرَّد على الجهَّال والسفهاء. لا، إنهم: {.. إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ..}. قالوا قولاً سديداً يليق بهم ويليق بحالهم مع الله. يليق بحالهم مع الآخرة، يليق بما نصبوا أنفسهم له من نصؤرة الدِّين وإقامة الحق في الأرض.

 

إن الإنسان تحيط به الكدرات والمنغِّصات من كل جانب، وتضطرب عليه أمور الحياة على الدَّوام.

 

وأمام هذه الحقيقة الماثلة يحتاج المسلم إلى نوع من التعامل يجنِّبه مزالق الطريق. وإلى نمط من الأخلاق يخفف عنه الصدمات، ويسري عنه حين الشدائد والأزمات. ولذلك أرشد الإسلام إلى هذا الخلق "خلق المسلم" ورغَّب فيه. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس {إنّ فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة}.

 

{وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما} قالوا لهم سلامٌ عليكم. كما حكى الله تعالى عن جماعة من المؤمنين {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين}. أي لنا طريق ولكم طريق لا نحب أن نتنازل عن طريقنا لنمشي في طريقكم. هذا هو شأن عباد الرحمن {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}. والجهل هنا ليس هو الجهل ضد العلم، ولكنه الجهل ضد الحلم . الجاهل السفيه قد يحمل شهادة عالية، وقد تكون له أرفع المناصب، ولكنّه جاهل في نفسه، سيئ الخلق، سليط اللسان، يخوض في أعراض النّاس بلسانه أو بقلمه، ويطعن في الشرفاء من النّاس.

 

هؤلاء إذا خاطبوا عباد الرحمن {قالوا سلاما}، {سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين}. هؤلاء هم الجاهلون. قال الشاعر الجاهلي:

 

ألا لا يجهلنَّ أحد علينا             فنجهل فوق جهل الجاهلينا

 

فالجاهل في نظر القرآن هو كل من عصى الله عزّ وجل ، كل من غلب الهوى على الحق، كل من غلب الشهوة على العقل.

 

يوسف عليه السلام لما راوده النسوة عن نفسه قال: {... وإلا تصرف عنِّي كيدهن أصبُ إليهنَّ وأكن من الجاهلين ...}

وموسى عليه السلام حينما أمر قومه أن يذبحوا بقرة {.. قالوا أتتخذنا هزؤاً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ..}، أي أن يهزأ في موضع الجد، وأن يتكلم بسخرية في موضع الحق. فإنّ ذلك شأن الجاهلين، وهو منزَّهٌ عن ذلك عليه الصلاة والسلام.

 

إذاً فكل من عصى الله ـ كما قال السلف ـ فهو جاهل، وكل سيئ الخلق فهو جاهل.

 

عباد الرحمن لا يشغلون أنفسهم بمعركة دائمة مع هؤلاء الجاهلين. وينزهون أنفسهم عن الرد عليهم وإن كان لهم الحق في أن يردُّوا السيّئة بمثلها. ولكنهم يعفون ويصفحون ولا يقولون إلا حقاً. فكل إناء بالذي فيه ينضح.

 

قالوا إن المسيح عليه السلام مرَّ على جماعة من اليهود فقالوا فيه شرّاً، وقال فيهم خيراً. فقالوا له: يقولون فيك شرّاً وتقول فيهم خيراً!! قال لهم كلٌّ يُنفق مِمَّا عنده.

 

من كان عنده الخير أنفق الخير، ومن لم يكن في جعبته إلاّ الشّر والخبث أنفق الشّرَّ والخبث. وهذا ما قاله الشاعر العربي قديماً:

 

ملكنا فكان العفة منَّا سجيَّةً        فلما ملكتم سال بالدم أبطح

فحسبكم هذا التفـاوت بيننا        وكلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضح

 

عباد الرحمن إذا خاطبهم الجاهلون {قالوا سلاماً}. تزهو ألسنتهم أن تُلَوَّث باللغو من الكلام. فلسان المؤمن جدير أن يملأه ويرطبه بذكر الله عزّ وجل، وبتلاوة القرآن، وبالتسبيح، بالحمد، بالتهليل، بالتكبير بالإستغفار، بشئٍ من هذا. أما بالرَّدِّعلى الجهّال، وما أكثرهم، فيزْهُ لسانه عنه، ويحرص على وقته، وعلى عمره أن يضيع في هذا الباطل.

 

إنّ عباد الرحمن الذين يتصفون بهذه الصِّفة، صفة الحلم والإعراض عن الجاهلين يريدون أن يكونوا أصحاب الفضل يوم القيامة. فقد جاء في الحديث الذي يرويه البيهقي في شُعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه: {إذا جمع الله تعالى الخلائق نادى منادٍى: أين أهل الفضل؟ فيقوم ناس هم يسير(أعداد قليلة ليسوا جمّاً غفيراً) فينلقون سراعاً إلى الجنّة. فتلقاهم المرئكة فيقولون: إنَّا نراكم سراعاً إلى الجنّة، فمن أنتم؟ فيقولون نحن أهل الفضل. فيقولون: ما كان فضلكم؟ فيقولون كنَّا إذا ظُلِمنا صبرنا، وإذا أُسيئ إلينا غفرنا، وإذا جُهِلَ علينا حلمنا. فيقال لهم: أدخلوا الجنّة فنعم أجر العاملين}.

 

عباد الرحمن يريدون أن يكنوا من أهل الفضل هؤلاء . فهناك مرتبتان: مرتبة العدل ومرتبة الفضل.

 

مرتبة العدل أن تقابل السّيِّئة بمثلها. ومرتبة الفضل: أن ترتفع عن ذلك فتقابل السّيِّئة بالحسنة، كما قال تبارك وتعالى: {ولا تستوي الحسنة ولا السّيِّئة، إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنَّه وليٌّ حميم}. أي كأنّه صديق قويُّ الصداقة. وذلك لأنَّ الإنسان أسير الإحسان. إذا أحسنت إلى إنسانٍ فإنَّ إحسانك إليه يشدُّه إليه ويقرِّبه منك. كما قال الشاعر:

 

أحسن إلى النّاس تستعيد قلوبهم            فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ

 

فالحلم أيها الإخوة صفة خلقية عظيمة يتحلى بها عباد الرحمن. ولفضل هذه الصفة سمَّى الله تعالى نفسه بالحليم.

قال تعالى: {واعلموا أن الله غفورٌ حليم} البقرة 235

وقال أيضا: {ولقد عفا الله عنهم إنَّ الله غفورٌ حليم} آل عمران 155

وقال سبحانه: {وصيّة من الله وةاللهه عليم حليم} النساء 12

 

والحلم كذلك حلبة أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام . فقد وصف الله إبراهيم الخليل بالحلم فقال: {إنَّ إبراهيمَ لأوَّاب حليم} التوبة 114. وقال: { إنَّ إبراهيمَ لحليم أوَّاه منيب} هود 75. ويبشِّره ربُّه كذلك بإبن حليم. ويكون الحلم من صفات إسماعيل عليه السلام. قال تعالى: {فبشَّرناه بغلام حليم}.

 

ويوصف شعيبا عليه السلام بالحلم والرشد من قومه. فقال تعالى: {إنّك لأنت الحليم الرشيد} هود 87.

 

أما صفوة الخلق وخيرة المرسلين فيزكِّيه ربُّه بكمال الأخلاق ويقول: { إنّك لعلى خلقٍ عظيم} القلم 4.

 

فما أحرانا أيها الإخوة بأن نكون من عباد الرحمن المتَّصِفين بهذه الصفة، وأن نبتعد عن الغضب والإنتصار للنفس. فالحلم كما يقال بالتحلّم. أي بالتدريب والتمرين يكون الإنسان منَّا حليماً.

 

جاء رجلٌ إلى ترجمان القرآن وحبر الأمّة عبد الله بن عبّاس، فسبَّه وتطاول عليه. فنظر ابن العبّاس إلى مولاه عكرمة وقال: يا عكرمة أنظر هل للرجل من حاجة فتقضيها له؟ فنكس الرَّجُل رأسه واستحى وانصرف.

 

هكذا كان الأفاضل الشرفاس الأبرار من النّاس يقابلون السَّيِّئة بالحسنة. سُئِل أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: {.. ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليٌّ حميم}. ما معناها؟ قال: {هو الرجل يشتمه أخوه فيقول له: إنْ كنتَ صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاباً فغفر الله لك}!!

 

أنظروا إلى هذه النفس الكبيرة. يقول له ياظالم أو يا فاسق أو يا مرائي أو يا كذّاب فيرد عليه: "إنْ كنتَ صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاباً فغفر الله لك".

 

وبهذا تنطفئ نار الغضب. والغضب جمرة من النَّار يلقيها الشيطان في جوف ابن آدم، فعليه أن يطفئها بالحلم وبكف النفس واللسان.

 

ومن هنا كانت وصيَّة النبيّ صلى الله عليه وسلم لكثير من الصحابة: {لا تغضب}. ومعنى "لا تغضب" لا تطع الغضب. أي إذا غضبت فألجم نفسك بلجام التقوى. لا تطع شيطان الغضب فتتصرف تصرف السُّفَهاء. هذا هو شأن الإنسان المسلم لا يغضب ولا يُعرِّض نفسه للغضب. وإذا غضب أمسك لسانه ويده. فلا يتكلم ألا بخير.

 

سبَّ رجلٌ رجلاً عند النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال المسبوب لسابِّه كلما شتمه: عليك السلام، عملاً بهذه الآية: {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم {أمَّا إنَّ ملكاً بينكما يذِبُّ عنك، كلما يشتمك هذا قال له: بل أنت وأنت أحق به، وإذا قال له عليك السلام قال: لا بل لك أنت أحق به} رواه أحمد.

 

أي أنَّ الله يبعث من الملائكة من يذوذ عن هذا المظلوم الذي كفَّ لسانه وغضبه، ولم يرد على الجهل بمثله.

 

وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعلِّم أصحابه هذا الدرس في الأناة والحلم وضبط النفس. فرُوُيَ أنَّ أعرابيا جاء يطلب منه شيئاً فاعطاه ثم قال له:{أحسنت إليك؟}. قال الأعرابي: لا، ولا أجملت! فغضب المسلمون وقاموا إليه. فأشار إيلهم أنْ كُفُّوا. ثم قام ودخل إلى منزله فأرسل إليه وزاده شيئاً. قم قال له:{أحسنت إليك؟}. قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيراً. فقال له النبيّ: {إنَّك قلت ما قلت آنفاً وفي نفس أصحابي من ذلك شئ، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يديّ حتى يذهب ما في صدورهم عليك}. قال نعم. فلمّا كان الغد جاء فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: {إنَّ هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه، فزعم أنّه رضى، أكذلك؟}. قال نعم فجزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيراً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَثَلي ومَثَل هذا الرجل كمثل رجلٍ ناقة شردت عليه فأتَّبعها النَّاس فلم يزيدوها إلا نفوراً. فناداهم صاحبها فقال لهم: خلّوا بيني وبين ناقتي. فإنَّي أرفق بها منكم وأعلم. فتوجّه لما بين يديها فأخذ من تمام الأرض فردَّها حتى جاءت واستناخت. وشدَّ عليها رحلها واستوى عليها. وإنَّي لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النّار}.

 

إنَّ الرسول الكريم لم تأخذه الدهشة لكنود الأعرابي أوَّل الأمر. وعرف فيه طبيعة صنف من النَّاس مردو على الجفوة في التعبير والإسراع بالشَّرِّ، فعالجه بالحلم والرقق واللين.

 

وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يُستغضب أحياناً غير أنَّه ما يُجاوز حدود التكرم والإغضاء. والمحفوظ من سيرته نَّه ما إنتقم لنفسه قط، إلا أن تُنْتَهك حرمة الله فينتقم لله بها.

 

وهكذى ينبغي أن يكون الإنسان المؤمن: يعرض عن الجاهلين، لا يشغل نفسه بهم. إنّه مشغول بما هو أعظم من ذلك. ليذكر الله تبارك وتعالى ، وليذكر الحساب والجزاء يوم القيامة.

 

أغلظ رجلٌ لمعمر بن عبد العزيز، وهو خليفة وأمير المؤمنين، أغلظ له في القول ففكَّر عمر وأطرق مليًّا، ثم قال له: أردت أن يستفزني الشيطان لعزَّةِ السلطان، فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، لا والله.

 

هكذا كانت أمَّتنا أمَّة حلم وأمَّة علم. كانوا لا يشغلون أنفسهم بالتوافه. عباد الرحمن يقولون (سلاماً) إذا خاطبهم الجاهلون. لأنهم مشغولون بما هو أعظم، مشغولون بدينهم، مشغولون بآخرتهم، مشغولون بأمر أمَّتهم، وليسوا مشغولين بالإنتصار للنَّفس.

 

الذين ينتصرون لأنفسهم، الذين يدورون حول ذواتهم، الذين جعلوا من أنفسهم أصناماً يُطاف بها، هؤلاء هم الذين يعيشون في معارك دائماً. من أجل كلمة يقيم أحدهم حرباً. من أجل لفظةٍ يقولها هذا أو ذاك يمتلئ قلبه حقداً، ويُدير الحياة من وراء ذلك على هذا الأساس. يتَّخذ من هذا خصماً، ومن هذا عدوّاً من أجل كلمةٍ قيلتْ. ولعلها قيلت في ثورة غضب. عباد الرحمن ليسوا كذلك. إذا غضبوا فإنّما يغضبون لله، يغضبون لذات الله، يغضبون لحق العقيدة، يغضبون لحق الشريعة، يغضبون لحق الأمَّة.

 

وهكذا كان نبيُّ الرحمة والمرحمة صلى الله عليه وسلم. خدمه إثنين: إبن مالك عشر سنين، وقال في ذلك: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي أُفّاً قط، ولا قال لي لشيئ لِمَ فعلت كذا، وهلاّ فعلت كذا".

 

فادنيا والله أهون من أيتعارك عليها النّاس. إنَّها لا تزن عند الله جناح بعوضة.

 

لماذا ينتصر النَّاس لأنفسهم؟ من أنت أيها الإنسان؟ أيها التراب الذي يمشي على التراب، ويصير إلى التراب.

 

لا تغضب لنفسك، ولكن إغضب لربِّك، لا تغضب لدنياك ولكن اغضب لدينك.

 

فأين منَّا من يغضبون لربهم؟ وأين منّا من يغضبون لدينهم؟

وأين منَّا من يتنازلون من حقوقهم لإخوانهم؟

أين الأذلّة على المؤمنين، الأعزَّة على الكافرين؟

 

اللهم فقِّهنا في ديننا، واجعلنا اللهم من عباد الرحمن {الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب}

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم، وادعوه يستجب لكم.

 

والحمد لله رب العالمين


faheemfb@gmail.com   فهيم أبوخـطـوة ،، البريد الإلكتروني