خطب الجمـعة |
|
|
23 |
بسم الله الرحمن الرحيم
التَّوبة 3
كتبها : ش
ترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة
01 01
1400 هـ01 01 2000
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ونسأل الله العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة .
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين ، اللهم صلّى وسلم وبارك على عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه .
لقد تحدثنا في جمعة ماضية عن التوبة النصوح وعن شروطها وبعص المسائل فيها ومن المنا سب اليوم أن نتحدث عن بعض قصص التائبين لعلنا نعتبر ونتعض وقبل ذلك قال أحدهم لأهل الذنوب ثلاثة أنهار في الدنيا تُعنى بتطهيرهم فإن لم تفِ بتطهيرهم بسبب كثرة ذنوبهم وزيادتها طُهِّرُوا في نار الجحيم يوم القيامة والعياذ بالله.
فأما الأنهار الثلاثة في الدنيا فهي:نهر التوبة النصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها, التي تتضاءل وتتلاشى فيها الذنوب كالبحر لا تضره الجيف، والنهر الثالث نهر المصائب العظيمة المكفرة فإذا أراد الله بعبده خيراً أدخله أحد هذه الأنهار الثلاثة فلم يحتج إلى التطهير الرابع. وإذا أردنا أن نتعرض لنماذج وقصص التوابين فينبغي لنا أن نقف عند هذه الحقيقة التي نطق بها العارف بربه عز وجل: ((ومن يحول بينك وبين التوبة)).
ففي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمّل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة ؟ فقال: ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها ناساً يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة)).وفي رواية: ((فلما كان في بعض الطريق أدركه الموت فناء بصدره نحوها)).وفيه: ((فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر، فجعل من أهلها).وفي أخرى نحوه، وزاد: ((فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقرّبي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوُجد إلى هذه أقرب بشبر)).فتأمل في حال ذلك العبد التائب كيف هيأ الله تعالى له أن ينوء بصدره وهو يعالج شدة الموت وسكراته حتى يكون إلى أرض الصالحين أقرب.
وتأمل كيف حرّك الله تعالى قريتين كاملتين من أجل هذا التائب، لأنه صدق الله تعالى، فصدقه الله وعده وقَبِلَ رجوعَه وسخّر له ما شاء من خلقه.
فلله، ما أوسع رحمة الله على عباده! وهم يعصونه بالليل والنهار، يتودد إليهم بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي.فسبحانه ما أحكمه وأبره! وما أرحمه وأكرمه!
ثم لأقف معك أمام مشهد آخر من مشاهد التوبة وهو مشهد ( بلى والله قد آن ).
كان قاطع طريق يتعرض للناس في طريقهم فيقوم بالسلب والنهب وما إلى ذلك من الفساد في الأرض, وذات ليلة خرج لممارسة عمله المعتاد فأقبلت قافلة فسمع رجلاً فيها يقول: حيدوا بنا إلى هذه القرية فإن أمامنا رجلاً يقال له الفضيل بن عياض يقطع الطريق، فأرعد الفضيل وأراد الله أن يلقي في قلبه واعظ الإيمان, فإن العبد لا يتوب إلا أن يتوب الله عليه, فيكون منه التوفيق والإذن والإلهام ثم يتوب العبد فيكون بعد ذلك من الله القبول والتثبيت.
شاء الله أن يتوب على الفضيل في هذه الساعة فأرعد ثم قال لهم: لا، بل جوزوا ومروا أيها القوم لا خوف عليكم أنتم آمنون بل أنتم أضيافي في هذه الليلة, فاستضافهم ثم خرج ليرتاد لهم طعاماً، فلما عاد إلى بيته سمم قارئاً منهم يقرأ القرآن ـ الآية السادسة عشرة من سورة الحديد ـ سمعه يقرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلْحَقّ فقال الفضيل: "بلى والله قد آن"، آن الأوان للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق. آية كريمة تأخذ بمنكب المؤمن بلين ورفق ـ تحرك الجبال وتلين الحديد ـ كأنها تأخذ بمنكبه وتقول له: أما آن لك أيها المؤمن أن تتوب؟! أما آن لقلبك أن يخشع لذكر الله وما نزل من الحق؟! أما حان الوقت لعودك لله؟! أما آن الأوان إلى متى إلى متى؟!
قال الفضيل بلى والله قد آن.
وقال إبراهيم ابن الأشعث: لقد سمعته يوماً يقول كأنه يخاطب نفسه يؤدبها ويعلمها ويحول بينها وبين الرياء ـ بعد أن هداه الله فصار بعد ذلك معروفاً من العلماء والقراء المشهورين الزهاد المعروفين ـ يقول: "تصنعتَ للناس وتهيأتَ لهم, ولم تزلْ ترائي حتى عظموك فقالوا: رجل صالح, فقضوا لك الحوائج, ووسعوا لك المجالس, خيبةً لك, ما أسوأ حالك إن كان هذا شأنك. قال وسمعته يقرأ يوماً ـ الآية الحادية والثلاثين من سورة محمد ـ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ , ويبكي ويقول: تبلو أخبارنا ـ تبلوا أخبارنا تخبر أغوارنا, تمتحننا تختبرنا ـ إن بلوت أخبارنا فضحتنا وهتكت أستارنا".
نعم إن المرء لا يأمن على نفسه إنه يتحدث كثيراً وينصح كثيراً لكنه إذا ابتلي لا يأمن على نفسه أن يخالف فعله قوله, فيفضح بين الناس ويهتك ستره، هكذا يريد الفضيل، إن بلوت أخبارنا فضحتنا إن بلوت أخبارنا أهلكتنا وعذبتنا.
قال وسمعته يقول: "إن قدرت ألا تُعرف فافعل"، إن قدرت ألا تُعرف بين الناس فافعل، ماذا يضرك ألا تعرف؟! وما عليك ألا يُثنى عليك؟! وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت عند الله محموداً؟! ماذا عليك؟!
هذامشهد آخر ودعوني أسميه ( أنت عبدي وأنا ربك ) نموذج عظيم من نماذج العائدين التائبين إلى الله تبارك وتعالى.فعن عبد الله بن مسعود قال: سمعت رسول الله يقول: ((لله أفرح بتوبة عبده المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة، معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، فطلبها، حتى إذا اشتد عليه الحرّ والعطش ـ أو ما شاء الله ـ قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ، فإذا راحلته عنده، عليها زاده وشرابه، فالله أشد فرحاً بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده)) متفق علي.وفي رواية: ((ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح).فأيها العبد الفقير، أرأيت أنبل الناس عِرقاً وأطهرَهم نَفْساً يجد فؤاداً يتلهف على لقائه بمثل هذا الحنين؟!فكيف بخطّاء أسرف على نفسه، وأبعد في العصيان؟ إنه لو وجد استقبالاً يستر عليه ما مضى لكان بحسبه ذلك الأمان.أما أن يقابل بتلك الفرحة وذلك الاستبشار فهذا ما لم يكن له بحسبان.
ولكن الله تعالى أرحم بعباده وأبرّ، وأسرّ بأوبة العائدين إليه مما يظنه كل قاصر.
فطوبى لذاك التائب، وقد تجددت له حياته، من معصية إلى طاعة، ومن ظلمة إلى نور، ومن ضلالة إلى هدى. والحمد لله رب العالمين
faheemfb@gmail.com فهيم أبوخـطـوة ،، البريد الإلكتروني