خطب الجمـعة |
|
|
22 |
بسم الله الرحمن الرحيم
التَّوبة 2
كتبها : ش
ترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة
01 01
1400 هـ01 01 2000
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وبعد ..
روى البخاري واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلمِ أهلِ الأرض، فدُلّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فكمَّل به مِائَةً، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على رجل عالمٍ، فقال: إنه قتل مائةَ نفسٍ، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحولُ بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرضِ كذا وكذا، فإن بها ناسًا يعبدون الله، فاعْبدِ اللهَ معهم، ولا ترجع إلى أرضِك، فإنها أرضُ سوءٍ، فانطلق حتى إذا نَصَف الطريقَ أتاه الموتُ، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكة ُالعذاب، فقالت ملائكة ُالرحمةِ: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذابِ: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم مَلَكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قِيسوا ما بين الأرْضَيْنِ، فإلى أيَّتِهِما كان أدْنَى فهو له, فقاسُوهُ فوجدوه أدنَى إلى الأرض التي أرادَ، فقبَضَتْه ملائكة الرحمةِ)).
عباد الله، هذه قصةٌ تفتح بابَ الأمل لكل عاصٍ مهما عظمَت ذنوبُهُ وكبُر جُرْمُهُ، قتل مائةَ نفسٍ، ونفسُهُ لم تخل من نوازِعِ الخيرِ ودوافِعِهِ، بل في أعماقِها بصيص من نورٍ وقليل من أمل وبقية من مخافة الله، ولعله تساءل فيما بينه وبين نفسِه: هل انقطعت علاقتُه بربِّهِ؟ لم يستطع أن يفتي لنفسهِ، فبحث عن عالمٍ يفتيه وهو يعلمُ أنَّ مسألتَه كبيرةٌ لا يستطيعُ أن يفتِيَه فيها إلا مَنْ عَظُم علمُهُ؛ ولِذا لم يسأل عن عالِم، بل سأل عن أعلم أهلِ الأرضِ، ولم يُقدَّر لمَن دلَّه على من يُفتيهِ أن يدُلَّهُ على أعلم أهل الأرض فعلاً، وإنما دلّوه على راهبٍ؛ والرهبانُ كثيرو العبادةِ قليلو العلم، فاستمَع الراهِبُ لمسألتَهُ فاستعظمَ ذنبَه، وظنَّ أنَّ رحمةَ اللهِ تضيق عليه، وأن مثلَ هذا الرجل لا تسعَه رحمةُ اللهِ، وحسْبُك بذلك جهلاً, فمدَّ هذا القاتلُ يدَه إلى هذا الراهبِ فقتله وأتمَّ بقتلهِ المائة لأنه لم يقتنع بجوابهِ، ومع ذلك الأملُ عنده بالله عظيم، فكانت الفتوى من العالم المربي المرشد، فقال له مستغربًا: ومن يحول بينك وبين التوبةِ؟! ودلَّه على الطريق الذي يجبُ عليه أن يسلُكَهُ، فكانت النتيجةُ أن قبضتْهُ ملائكةُ الرحمةِ، وغُفِرت ذنوبه العظيمةِ.
فيا عبد الله، لا تدع لليأس إلى قلبك طريقًا بسبب ذنب وقعتَ فيه وإن عَظُم، فقد دعا الله إلى التوبة أقوامًا ارتكبوا الفواحش العظام والموبقات الجسام، فهؤلاء قومٌ قتَلوا عبادَه المؤمنين وحرّقوهم بالنار ذكر الله قصتهم في سورة البروج، ومع ذلك دعاهم إلى التوبة: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ[البروج:10]. وهؤلاء قوم نسبوا إليه الصاحبة والولد، فبين كفرَهم وضلالهم ثم دعاهم إلى التوبة: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[المائدة:74]. وهذه امرأة زنت فحمَلت من الزنا لكنّها تابت وأتت النبي معلنة توبتها طالبة تطهيرها، فلما رجمها المسلمون قال رسول الله : ((لقد تابت توبة لو قُسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)).
واستمع معي إلى هذا النداء الرباني الذي يفيض رحمة: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[الزمر:53]. فماذا تنتظر بعد هذا؟! فقط أقلع واندم واعزم على عدم العودة واطرق بابَ مولاك، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ[البقرة:186]. اذرف دموع الندم، واعترف بين يدي مولاك، وعاهده على سلوك سبيل الطاعة، وقل كما قال القائل:
أنا العبدُ الذي كَسِب الذنوبا وصَدَّتهُ الأمـانِيُّ أن يتوبَـا
أنا العبد الذي أضحى حزينا علـى زلاّتـه قلِقا كئيبـا
أنا العبد المسيءُ عَصَيْتُ سرًا فما لِي الآن لا أبدي النحيبَا
أنا العبد المُفَرّطُ ضاع عمري فلم أرْعَ الشَّبيبةَ والمشيبَـا
أنا الْمقطوعُ فارحمني وصِلْنِي ويسِّر منك لِي فرجا قريبـا
أنا الْمضطرُّ أرجو منك عفوًا ومن يرجو رضاك فلن يَخيبَا
وتذكر قول الله عز وجل: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى[طه:82].
أخي الحبيب، لا تقل إني ارتكبتُ من الذنوب الكثيرَ وتُبْتُ إلى الله، ولكن ذنوبي تُطارِدُني، فأقول لك: أيها الأخ المسلم، إن هذه المشاعرَ هي دلائلُ التوبة الصادقة، وهذا هو الندمُ بعينه، والندمُ توبةٌ، فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء، رجاء أن يغفر الله لك، ولا تيأس من روح الله، ولا تقنط من رحمة الله، والله يقول: وَمَنْ يَقْنَطُ مِن رَحُمَةِ رَبِّهِ إلا الضَّالُّونَ[الحجر:56]، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأس من روح الله). والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، وقد يغلب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة، فإذا عصى غلب جانب الخوف ليتوب، وإذا تاب غلب جانب الرجاء لطلبِ عفوِ الله.
فالتّوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتّصف بها تحقَّق فلاحُه وظهر في الأمور نجاحُه، قال تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ[القصص:67]. وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فَرَحُ الرّبّ بها فرحًا شديدًا، قال رسول الله : ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةَِ عبدِه من أحدِكم أضلَّ راحلتَه في فلاة عليها متاعُه، فطلبَها حتى إذا أعيَى نام تحت شجرة، فإذا هي واقفةٌ فأخذ بخطامها فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربّك، أخطأ من شدّة الفرح)) رواه مسلم، فاللهُ أشدّ فرحًا بتوبة عبدِه من هذا الذي أضلّ راحلتَه.
هذا وصلوا وسلموا على من أمرَ اللهُ بالصلاة والسلام عليه...