خطب الجمـعة |
|
|
04 |
بسم الله الرحمن الرحيم
الغِيْبَة
كتبها : ش .
ترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة
01 01 1400 هـ
01 01 2000 م
الحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
والحمد الله رب العالمين
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين ، وعلى
آله وصحبه أجمعين ، وعنا معهم بجودك وفضلك يا كريم ....أما بعد: فإننا قد شرعنا
من الجمعة الماضية في الحديث عن النصيحة ، وعملا بهذا أتوجه إليكم والي نفسي
المقصرة بهذه النصيحة التي أصبحة ضاهرة ولم ينجو منها إلا من رحم ربك ، لنحاول
جاهدين في اجتنابه، ونعمل مخلصين لسدّ بابها وإغلاقه .
إن من مظاهر الظلم التي حرّمها الله تعالى وعدّها كبيرة من كبائر
الذنوب والتي عششت في قلوبنا وبيوتنا ومجالسنا وجل أحاديثنا "الغيبة"؛ أن يغتاب
المسلم أخاه المسلم، وأن تغتاب المسلمة أختها المسلمة، فقد نسي كثير من الناس أن
الغيبة من الكبائر التي أوعد الله صاحبها العذاب الأليم.
فيكفينا ذمّا وإثما قوله تعالى:
وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ
[الحجرات:12]، فقد شبه الله تعالى المغتاب بآكل الميتة، وأي ميتة؟ ميتة أخيه
المسلم.
وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله،
ما الغيبة؟ قال: ((ذكرك
أخاك بما يكره))،
قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : ((إن
كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)).
فإن كنت ـ أيها المسلم وأيتها المسلمة ـ تستقبح وتستبعد أن تأكل
لحم أخيك ميتًا فيجب عليك أن تستقبح ذكره بسوء.
الغيبة محرمة تحريمًا أشد من كثير من المعاصي التي تغتاب أخاك
لأجلها، فاحذر من مزالق الشيطان وخطواته.
جاء في الصحاح والسنن والمسانيد من طرق كثيرة أنه قال في خطبة حجة
الوداع: ((أتدرون
أي يوم هذا؟))
قالوا: الله ورسوله أعلم، حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال: ((أليس
بيوم النحر؟))
قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فأي
شهر هذا؟))
قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أليس
بذي الحجة))،
قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فأي
بلد هذا؟))
قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: ((أليس
بالبلدة؟))
قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإن
دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم
هذا، فليبلغ الشاهد الغائب)).
وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((كل
المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه))،
وروى أحمد وأبو داود عن أبي برزة الأسلمي مرفوعًا: ((يا
معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا
عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في
بيته)).
فالله الله في أعراض المسلمين، فإن الله عز وجل يمهل ولا يهمل،
حتى إذا أخذ الظالم لم يُفلته. كفى بالغيبة أنها تجلب البغضاء والحقد والكراهية
بين المسلمين. كفى بالغيبة أثرا أنها تُقسي قلب العبد، ينادي بملء فيه: "أريد
الطمأنينة" ولا يذوقها. كفى بالغيبة عيبًا ما قاله علي بن الحسن: إياك والغيبة،
فإنها إدام كلاب الناس.
أما العقوبة في الآخرة، فمبدؤها في القبر، إذ روى أبو داود عن أنس
أن النبي رأى ليلة الإسراء والمعراج قومًا لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم
وصدورهم، فقال النبي : ((من
هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم، وهذا
عذابهم إلى يوم القيامة)).
واعلموا أن كل ما يفهم منه مقصود الذم فهو داخل في الغيبة، سواء
كان بالكلام أو بغيره، كالغمز والإشارة والكتابة، فإن القلم أحد اللسانين.
وهناك نوع من أنواع الغيبة، يستر بستر الرحمة والنصيحة فيأتيك
أحدهم: أرأيت فلانًا المسكين، قد ابتلاه الله بالمعصية الفلانية. فهو يظهر الرحمة
ويخفي قصده، فصار بعض الناس يتفنن في الغيبة، ألا ساء ما يعملون.
ولقد استقرأ العلماء الأسباب والبواعث على هذا الذنب العظيم
فرأوها أربعة أسباب:
1- تشفي الغيظ: فقد يخطئ المسلم في حق أخيه المسلم، أو تخطئ
المسلمة في حق أختها المسلمة، وتخطئ المرأة في حق أصهارها، وقد تخطئ العجوز في حق
زوجة ابنها، وقد يخطئ الجار في حق جاره، فيمتلئ هذا وذاك غيظًا، فيشفي غيظه بغيبة
صاحبه. ولو أنهم علموا أن الإنسان مجبول على الخطأ ولا بدّ له من الغلط لصبر
واحتسب الأجر عند الله، فإن لم يجب الصبر في مثل هذه الحالة فمتى يجب الصبر؟!
2- موافقة الرفقاء، فإن الصاحب والجليس إذا كان يتفكه في الطعن في
الأعراض، رأى الرجل أنه لو أنكر عليه أو قطع كلامه استثقله ونفر عنه، فيساعده
ويرى ذلك من حسن المعاشرة. ولو أنه علم أن السامع أحد الشاتمين وأن الله أمره
بالقيام من المجلس السوء لما رضي بذلك، فإنه من أرضى الناس في سخط الله سخط الله
عليه وأسخط عليه الناس.
3 - ومن الأسباب الباعثة على الغيبة اللعب والهزل، فيذكر غيره بما
يُضحك الناس، بل إن بعض الناس يكون كسبه من هذا، ولو علم هذا المسكين أن ضحك ساعة
سيجلب له عذاب زمن طويل لما فعل.
4- السبب الرابع: الجهل، وأخصّ بهذا السبب طائفتين من الناس:
أ- رعاعُ الناس وعوامهم الذين إذا رأوا الصالحين والصالحات على
خطأ ما سارعوا إلى قذفهم بألسنة شداد في أعراضهم، فهمّهم الأوحد هو الإخوة
والأخوات، وكأنهم لا يعلمون أنهم كذلك إخوة وأخوات لنا، فلماذا هذا التفريق
الشنيع؟ ثم لماذا هذا التشنيع الفظيع؟
متى ادّعى الملتزمون والملتزمات العصمة؟ متى ادعوا أنهم أكمل
الناس؟ كل إنسان مقصر، إلا أن هؤلاء الملتزمين لهم حسنات مكفّرة للسيئات،
والميزان يوم القيامة. أما أنت يا من وقعت في حبائل الشيطان، تخطئ بالليل
والنهار، وتجهر بمعصية العزيز الجبار ولا تبالي، ولا ترى الجذع في عينك، ثم ترى
القذاة في عين أخيك، فهذا هو غاية الجهل.
ب- الصنف الثاني: من خدعه الشيطان وراح طوال يومه وأسبوعه وشهره
وعمره يتتبع عثرات العلماء والدعاة إلى الله، صفوة الله من خلقه، الذين يأمرون
بالمعروف وينهون عن المنكر، في زمن انعدمت فيه الفضيلة، وعمت فيه الرذيلة، إذا
أخطأ الواحد منهم وزلت قدمه ـ ولا بد له من ذلك ـ لم يرحمه الناس، وسلّطوا عليه
ألسنتهم بالتبديع والتضليل، وكأنه لا حسنة له، ونسوا ـ هداهم الله تعالى ـ أن
الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، وهؤلاء العلماء والدعاة الفضلاء قد بلغوا
القلتين لا محالة، لكنه الجهل والنفس التي تحب وتشتهي تتبع أخطاء الناس غافلة عن
أخطائها وعيوبها، ولو حدثوك أن الدّم ينبت المرعى فصدق، ولو حدثوك أن بعض الناس
ذهبت حزازات نفوسهم وأحقادهم لا تصدق
فحان الوقت ـ عباد الله ـ لنستيقظ من غفلتنا، ونصون ألسنتنا عن
لحوم الناس جميعهم، لا سيما العلماء والدعاة، والمخطئ منهم يبين خطؤه دون التعرض
لشخصه بالذم، واعلموا أن بيان الخطأ بالأدب والأخلاق الحسنة أدعى لقبول النصح.
فإن من السهل على الإنسان أن يتحدث عن الأمراض والآفات، وعن
الكبائر والموبقات، وعن صور الظلم المتنوعات، لكن الأصعب هو معرفة سبل الابتعاد
عنها وإيجاد العلاج منها.
فقد آن لنا أن نتذاكر فيما بيننا الأسباب التي تعين المسلم وكل
محب لله وطامع في رضاه، تعينه على اجتناب هذا الداء العظيم.
1- أولها: الالتجاء إلى الله والافتقار إليه ودعاؤه سبحانه بأن
يقينا شرور أنفسنا، فإن الأحمق كل الأحمق هو من يثق بنفسه ويبرئها من العيوب،
مع أنّ الله تعالى قال:
إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِٱلسُّوء
[يوسف:53]. فعلينا أن لا يفتر لساننا عن الدعاء بالشفاء لهذه النفس من أمراضها،
وقد روى أحمد أن رسول الله كان يقول: ((اللهم
قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد أمري))،
وروى كذلك عن عائشة قالت: افتقدت رسول الله ذات ليلة فوجدته ساجدًا يقول: ((اللهم
آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)).
فينبغي لكل من يريد أن يتخلص حقًا من هذا العيب أن يسأل الله تعالى، إِن
يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70].
2- السبب الثاني: تعظيم هذا الذنب، وتذكير النفس بأنه من أفظع
العيوب في حق المسلم، قال الفضيل: "بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله"،
وليعلم المغتاب أنه بالغيبة يتعرض لسخط الله ومقته وغضبه، وكيف يأمن على نفسه
وهو يسمع قوله تعالى:
فَلَمَّا ءاسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ
[الزخرف:55]، فبقاؤك وإصرارك على الغيبة أعظم من الغيبة، وفرحك وسرورك بالغيبة
أعظم من الغيبة، وضحكك وأنت لا تدري ما الله فاعل بك أعظم من الغيبة.
وإذا أردت أن تعلم عظم الذنب الذي أنت عليه فتذكر الحديث الذي
رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((أتدرون
ما المفلس؟))
قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن
المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف
هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من
حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم
طرح إلى النار))،
فمتى استحضر المسلم هذا كفّ لسانه عن الغيبة، ورحم الله الحسن البصري، فقد بلغه
أن فلانًا يغتابه، فذهب إليه وأهدى له طبقًا من التمر الجيد وقال له: "لو وجدت
أحسن من هذا لكافأتك به لما تهديه إلي من الحسنات".
ويؤيد ذلك السبب الثالث:
3- التزام الصمت، فإن الكلمة لك ما لم تخرج من فيك، فإذا خرجت
كانت عليك، وفي الحديث: ((من
يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة))
رواه البخاري، وقال معاذ للنبي : أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فذكر له النبي
شعائر الدين ثم قال له: ((ألا
أخبرك بملاك ذلك كله؟))
قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه قال: ((كف عليك هذا))، فقلت: يا نبي الله،
وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ((ثكلتك
أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ
إلا حصائد ألسنتهم؟!))
رواه الترمذي.
4- ومن أكبر الأسباب الواقية من الغيبة الاهتمام بالنفس وعدم
الاهتمام بالناس، فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من
حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
فما يعنيني إذا اشترى فلان أو باع؟ وما يعنيني إذا تزوج فلان بمن هي أصغر منه؟
وما يعنيني إذا طلق فلان زوجه؟ وهذا الأمر يقصد به الرجال والنساء معًا، فقد
كان الفضول قديمًا من صفاتهن، ولكن كثير من الرجال أشبهوهن في ذلك.
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ
[المدثر:38]، والسعيد من شُغل بنفسه، وأنت ـ أيها الطالب للعلم ـ اشتغل بالعلم
النافع والعمل الصالح، واعلم أن سكوتك أحسن من كلامك، وكلامك بالأدب واللطف
أحسن، فإن كثيرًا منا يظن أنه يجب عليه الكلام وكأنه إمام عصره وفريد دهره (أطرق
كرا فإن النعام في القرى).
إن لنا عيوبًا احترنا في كيفية التخلص منها، فتذكر ذلك. فإن الذي يتذكر عيوب
نفسه ويشتغل بإصلاحها يستحي أن يعيب الناس:
5- القيام من مجلس الغيبة، فاعلم أن المستمع للغيبة شريك فيها،
والسامع أحد الشاتمين،
وَإِذَا رَأَيْتَ ٱلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـٰتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ
حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ٱلشَّيْطَـٰنُ
فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ٱلذِّكْرَىٰ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ
[الأنعام:68]، فلا تنجو من الإثم إلا إذا أنكرت بلسانك، فإن خفت واستحييت فاقطع
الكلام بكلام آخر، وإلا لزم عليك القيام من ذلك المجلس.
6- حسن الظن، فاعلموا أن المسلم إذا بلغه شيء عن أخيه فليحسن الظن
به قدر الاستطاعة، قال تعالى:
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيرًا مّنَ ٱلظَّنّ إِنَّ بَعْضَ
ٱلظَّنّ إِثْمٌ
[الحجرات:12]، وقال : ((إياكم
والظن فإن الظن أكذب الحديث)).
وكما قال بعض الصالحين: "التمس
لأخيك سبعين عذرا، فإن لم تجد فاتهم نفسك"،
اتهم نفسك؛ إذ كيف لم أجد له عذرا من بين سبعين عذرا، واحذر أن تحمل كلام أخيك
الصالح على غير المحمل الحسن، فإن ذلك أدعى لأن لا تنكر عليه. فإذا تبيّن لك أن
الحقّ في ظنك فاعلم أن فيك أخطاء مثله، فاعف عنه واصفح، وإلا ما سلم لك صاحب
الدهرَ أبدا ، بل الجأ إلى طريقة الله ورسوله، وسارع إلى نصحه وإرشاده إلى
الصواب، فإننا كلنا نخطئ بالليل والنهار، تذكره بطاعة الله وتقواه، فيستجيب ولا
ريب في ذلك، فتكون قد أحسنت إليه أكبر إحسان دون أن تغتابه أو تقدح فيه ،
والى نصيحة أخرى والحمد لله رب العالمين .
فهيم أبوخـطـوة ،، البريد الإلكتروني