الصِّدق والكذب (3)

  

كتبها : ش   د . يونس صالح

ترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة

  

7 ذي الـقعدة 1429هـ

7 نـوفــمبر 2008م

  

إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ , ونستغفرهُ , ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا , منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لـهُ , ومنْ يُضلل فلا هاديَ له ، وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ لـه, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله .) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَـمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ   مُسْلِمُونَ ( ]آل عمران:102[ .) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ( ] النساء:1[.) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً  يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (  ]الأحزاب:70-71[.

أما بعد : فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ , وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ r وشرَّ الأمورِ مـُحدثاتُها , وكلَّ محدثةٍ بدعة , وكلَّ بدعةٍ ضلالة , وكلَّ ضلالةٍ في النار ..

أما بعدُ ، أيها المسلمون

قال الله تعالى  في محكم التنْزيل: ((هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لهُمْ

جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ)) (المائدة:119).

 وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق ونهى  عن الكذب، والحسد والبغضاء فقال: ((عَليْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ مَعَ البِرِّ وَهُمَا فِي الجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالكَذِبَ فَإِنَّهُ مَعَ الفُجُورِ وَهُمَا فِي النَّارِ، وَسَلُوا اللهَ اليَقِين وَالمُعَافَاةَ فَإِنَّهُ لمْ يُؤْتَ أَحَدٌ بَعْدَ اليَقِينِ خَيْرًا مِنْ المُعَافَاةِ، وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَبَاغَضُوا وَلا تَقَاطَعُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا كَمَا أَمَركَم الله))

أيها الأخوة المؤمنون إن الإسلام هو أشد الأديان وطأة على الكذب و أكثرهم تنويها بالصدق و الصادقين فهو يجعل الصدق قرين التقوى فمن فقد الصدق فقد فقد التقوى حين يقول القرآن الكريم : (( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين)) التوبة الآية 119 بل هو يعتبر الصدق مفتاح البر و الكذب مفتاح الإثم و الفجور حين يقول صلى اله عليه وسلم " الصدق يهدي إلى البر , و البر يهدي إلى الجنة , والكذب يهدي إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النار" ب , م . و من فلسفة الإسلام أن الكذب عنوان خيانة كبرى يقول عليه الصلاة و السلام " كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثا هو لك مصدق وأنت له كاذب" أحمد .

بل هو من آيات النفاق " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب , وإذا وعد أخلف, وإذا اؤتمن خان" ب, م بل لا يلتقي مع الإسلام ولا يطبع عليه المسلم. و في ذلك يقول عليه الصلاة و السلام : " كل خصلة يطبع عليها المسلم إلا الخيانة والكذب" رواه أحمد وابزار و غيرهما.

 

و قد سئل عليه الصلاة و السلام : " أيكون المسلم جبانا؟ قال: "نعم" قيل أفيكون بخيلا ؟ قال "نعم" قيل أفيكون كذابا؟ قال : " لا"  رواه الإمام مالك. وهذا موقف تتقطع له ظهور الذين يخشون على دينهم و على كرامتهم ما دامت فيهم رجولة و إيمان. إن الكذب أيها الأخوة جبن و خسة و جرأة على الله يستحق الكاذب من أجلها اللعنة و الطرد من رحمة الله : " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعوا ابنائنا و ابناءكم و نسائنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" آل عمران 61  نعم قد يجبن المؤمن فإن بعض الناس إدا جند للجهاد المفروض ارتعدت فرائصه واقشعر جلده خوفا و فرقا, و إن بعضهم إذا استخرجت منه الزكاة الواجبة أخد يعدها و أصابعه ترتعش. و قد تكون هناك أعذار لمن يشعرون بوساوس الخوف و الحرص عندما يوقفون في ميادين التضحية و الفداء .. و لكنه لا عذر البته لمن يتخذون الكذب خلقا و يعيشون به على خديعة الناس. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة و الكذب" . فعلى كل مسلم رضي بالله ربا و بالإسلام دينا و بمحمد نبيا ورسولا أن يحفظ ألفاظه و لا يتكلم إلا بالصدق و أن يجتنب الكذب فإن الله تعالى "لايهدي من هو مسرف كذاب" غافر 28

 

أيها المؤمنون تخلقوا بأخلاق نبيكم صلى الله عليه وسلم, واتصفوا بصفاته, واعلموا ان الصدق من صفاته, و أنه من صفات المرسلين قبله, و مابعث في امة من نذير إلا وكان اصدقهم في في حديثه , وسائر أموره. وكان محمد صلى الله عليه وسلم معروفا في قومه بالصادق الأمين قبل ان يأتيهم بكتاب الله الكريم, فلما جاءهم بالحق استحبوا العمى على الهدى واتبعوا الشيطان وخطواته " و يقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم و من عنده علم الكتاب" و قد كان صلى الله عليه وسلم يبغض الكذب و الكذابين فعن عائشة أم المؤمنين قالت : " "ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب. ما اطلع على أحد من ذلك بشيئ , فما يزال في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث توبة"  رواه أحمد و في رواية عنها : " ما كان من خلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب. ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة, فما يزال في نفسه حتى يعلم انه قد احدث توبة " رواه ابن حبان . و في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم " رأيت الليلة رجلين أتياني قالا لي : الذي رأيته يشق شدقه فكذاب , يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق, فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة .." رواه البخاري.أيها الأخوة المؤمنون ويكفي الكذب تشنيعا و تقبيحا أن من يزاوله يكون في سخط الله و عذابه روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة , ولا يزكيهم, و لا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان, و ملك كذاب, و عائل مستكبر".

 

و جدير بنا ايها الأخوة مادمنا في صدد الحديث عن الصدق و الكذب و بيان منزلته في الإسلام أن نذكر أثر هذه التربية والتعاليم في تربية المسلمين على الصدق حتى تركوا في التاريخ ابلغ الأثر و أروع الأمثلة على تمسكهم بهذا الخلق في مختلف اطوار حياتهم. ذهب بلال و صهيب من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بيت من العرب يريدان أن يتزوجا منهم فقيل لهما من أنتما؟ فقال بلال : أنا بلال و هذا أخي صهيب, كنا ضالين فهدانا الله و كنا مملوكين فأعتقنا الله, و كنا عائلين فأغنانا الله, فإن تزوجونا فالحمد لله, وإن تردونا فسبحان الله, فقال القوم: بل تزوجان والحمد لله. ثم انصرفا فقال صهيب لبلال: لو ذكرت مشاهدنا وحروبنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال بلال اسكت: فقد صدقت فزوجك الصدق.

 

ما احرانا أن نقتدي في أخلاقنا بهؤلاء الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم, وأن نكون قدوة في تربيتنا لأبنائنا على فضيلة الصدق, و ما أجدر المربين و المربيات أن يربوا الأبناء و البنات على الصدق حتى ينشاوا كراما مطبوعين على الجرأة و العفة والأمانة, و ليحذر الأباء و الأمهات من أن يكذبوا ويكثروا الكذب على أطفالهم, او يعودوهم عليه, ولو كان لإسكاتهم من بكاء أو لتهدئتهم من غضب فإن ذلك تعويد على أقبح خلق, عدا أنه يفقد اطفالهم الثقة بأقوالهم فلا تنجح موعظة ولا يؤثر حديث. قال عبدالله بن عامر: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيتنا وانا صبي صغير, فذهبت لألعب, فقالت امي تعالى حتى أعطيك, فقال صلى الله عليه وسلم: " وما أردتي أن تعطيه؟ قالت تمرا,فقال: اما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة" رواه أبو دوود و البيهقي. وروى أحمد وابن ابي الدنيا عن ابي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" من قال لصبي هاك, ثم لم يعطه فهي كذبة"

ومن طرائف ما يروى أيها الأخوة المؤمنون في تعويد السلف أولادهم على الصدق و معاهدتهم عليه هذه القصة: يقول العالم الرباني الشيخ عبدالقادر الكيلاني رحمه الله: " بنيت أمري من حين نشأت ـ على الصدق , و ذلك اني خرجت من مكة إلى بغداد اطلب العلم, فأعطتني أمي أربعين دينارا أستعين بها على النفقة, وعاهدتني على الصدق, فلما وصلنا إلى أرض همدان خرج علينا جماعة من اللصوص, فأخذوا القافلة , فمر و احدا منهم و قال لي: ما معك؟ قلت: أربعون دينارا فظن أني أهزء به فتركني, فرآني رجل آخر, فقال: ما  معك؟ فأخبرته بما معي, فأخذني إلى كبيرهم, فسألني فأخبرته, قال ما حملك على الصدق؟ قلت عاهدت أمي على الصدق, فأخاف أن أخون عهدها... فأخذت الخشية رئيس اللصوص, فصاح ومزق ثيابه, وقال أنت تخاف أن تخون عهد أمك, و أنا لا أخاف أن أخون عهد الله؟ .. ثم امر برد ما أخذوه من القافلة, وقال أنا تائب إلى الله على يديك, فقال من معه : أنت كبيرنا في قطع الطريق, وأنت اليوم كبيرنا في التوبة, فتابوا جميعا ببركة الصدق.

 

عليك بالصدق ولو انــــه ...   أحرقك الصدق بنار الوعيد

وابغي رضى الله فأغبى الورى... من أسخط الله وأرضى العبيد

ويقول الآخر:

لي حيلة في من ينم.....وليس لي في الكذاب حيلة

من كان يخلق مايقو .... ل  فحيلتي فيه قليلة

 حسبُ الكذوب من البليةِ *** بعضُ ما يُحكى عليه

فإذا سمعت بكـــذبةٍ *** من غيره نُسبت إليه

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم و نفعني وإياكم بما فيه من الآيات و الذكر الحكيم, أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إن هو الغفور الرحيم.

.