خطب الجمـعة |
|
|
42 |
بسم الله الرحمن الرحيم
الدخول في تجارة مع الله
كتبها : ش
ترجمها إلى الإنجليزية: د . فهيم بوخطوة
01 01 1400 هـ
01 01 2000 م
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا يضل ومن يضلل فلا هادي له ، ولن تجد له من دون الله ولــيّا مرشدا . الحمد لله ، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله وخيرته من خلقه ، وعلى من سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين .
فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله جل وعلا، اتقوه تعالى بفعل أوامره واجتناب نواهيه، اتقوه تعالى حق تقواه، فلا يفتقدكم حيث أمركم، ولا يراكم حيث نهاكم، وتزوّدوا من دنياكم لأخراكم، واحرصوا على ما يقربكم من خالقكم ومولاكم، فإنه تعالى قريب مجيب، يعطي من سأله، ويجيب من دعاه.
أيها المسلمون، مسافران من بلد إلى بلد والطريق شاقة وطويلة، تزوّدا من بلدهما بشيء من الوقود، وخرجا يغذّان السير إلى البلد المقصود، وفي أثناء الطريق شغل أحدهما بما تقع عليه عينه من مناظر الطريق وملهياته، واستمر يقلّب طرفه في القادمين والذاهبين، فما علم إلا والراحلة تقف به في مكان لا وقود فيه ولا زاد، فظل في مهلكته ينتظر مسافرًا يراه على تلك الحال فيعطف عليه، أو لعل صديقًا يأتي به قدر فيحدب عليه وينقذه مما هو فيه، وأما الآخر فظل يسير وعينه على مؤشر الوقود، فكلما كاد ينفد وكادت الراحلة تقف مر على محطة شاملة متكاملة، فعطف راحلته وأمالها، وملأها وقودًا وأرواها، وتموّن هو بما أراد من طعام وشراب واستراح قليلاً، وهكذا ظلّ يسير منتبهًا متيقظًا، كلما مرت به محطة تزود منها وأخذ أهبته، حتى بلغ بلده وقضى أَرَبَه. فما تقولون في هذين الرجلين؟! وأيهما أشد فهمًا وأرجح عقلاً؟ لا شك أنكم ستقولون: إن من احتاط لنفسه واهتم بأمره هو الحصيف العاقل، وأما الآخر فقد ألقى بيده إلى التهلكة بتفريطه وإهماله.
أيها المسلمون، إن حال هذين المسافرين ـ لو تفكرنا مليًا وتأملنا قليلا ـ ما هي إلا حالي وحالك وحال فلان وعلان مع مواسم الخيرات والطاعات، والتي جعلها الله لنا بين حين وآخر محطات إيمانية نتزوّد منها بالوقود الحقيقي والزاد الأخروي، فاغتَنَمها عقلاء موفّقون فنجوا وفازوا، وأهملها حمقى مغفّلون فخابوا وخسروا.
وإن من نعم الله عز وجل على هذه الأمة المرحومة ـ إذ جعل أعمارهم قصيرة وآجالهم محدودة ـ أن أبدلهم مواسم الخيرات والبركات، ومَنَّ عليهم بالأعمال المضاعفات، يعملون قليلاً ويؤجرون كثيرًا، وينفقون زهيدًا ويجزون مزيدًا، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
ألا وإن من المواسم العظيمة الجليلة والفرص الذهبية الثمينة ما نحن مقبلون عليه من أيام مباركة وليال فاضلة، ذلكم هو شهر رمضان المبارك الذي جعل الله صيام نهاره ركنًا من أركان الإسلام، وسن نبي الهدى لأمته في ليله التهجد والقيام، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:183-185].
فيا لها من سوق للتجارة الرابحة مع الله يتزود منها المتزودون، ويا له من مضمار يتسابق فيه ذوو الهمم العالية ويتنافس المتنافسون، ويا لسعادة من كان في تجارته مع ربه صادقًا، ويا لفلاح من كان لهدي نبيه عليه الصلاة والسلام موافقًا، قال : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه))، وقال عليه السلام: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه)).
أيها المسلمون، وكلما ازداد شهر رمضان اقترابًا زاد قلب المؤمن وَجَلاً واضطرابًا، فهو لا يدري أنفسه تدرك هذا الشهر وتبلغه فيهنّيها، أم تخرج روحه قبل دخوله فيعزّيها، ثم هو لا يدري بعد ذلك إذا أدرك هذا الشهر المبارك أيكون من الموفقين المسددين، أم من المخذولين المبعدين. فإن من المعلوم المشاهد لكل ذي عين وقلب أن كلاًّ يغدو ويعدو في إقبال هذا الضيف الكريم، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل:4-11].
أما أصحاب القلوب الحية والعقول الراجحة فيبيعون أنفسهم في هذا الشهر للغني الوفي، ويقبلون على الكريم الرحيم الرحمن، يصومون إيمانًا واحتسابًا، ويقومون لربهم مخلصين قانتين، يرجون رحمته ويخافون عذابه، تتجافى جنوبهم عن المضاجع، يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم ربهم ينفقون، وما ذلك إلا لأنهم علموا أن بلوغ رمضان نعمة عظيمة تستحق الشكر للمنعم الكريم سبحانه، ولذلك فهم يقضون نهاره صيامًا، ويبيتون ليله سُجَّدًا وقيامًا، لا يرفثون ولا يفسقون، ولا يسبون ولا يشتمون، ولا في باطل أو لغو يخوضون، يقرؤون كتاب ربهم ويتلذذون بتلاوته، ويسبحون بحمده ويحمدونه على نعمته، قد حفظوا الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكروا الموت والبِلَى، سمو نفس وشرف هدف، ونبل غاية وهداية قلب، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]. هؤلاء ـ والله ـ هم الذين يستفيدون من رمضان، وهم الذين يجدون فيه طعم الرجولة الصحيحة والحرية الحقة، لمثلهم تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، ولا ينسلخ عنهم الشهر إلا وقد غفرت ذنوبهم وكفرت خطاياهم، بأمثالهم تصلح الأحوال وتستقيم الأوضاع، وبوجودهم تسعد المجتمعات وتحيا الأمم، وما أشد حاجة الأمة إلى أمثالهم في كل عصر وفي كل مصر.
وأما أكثر الناس ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فهم مع رمضان أشتات غير متفقين، عن اليمين وعن الشمال عِزِين، منهم من لا يرى فيه أكثر من كونه حرمانًا لا فائدة منه وتقليدًا تعبّديًا لا مبرر له، فهم عازمون على الإفطار فيه مجاهرين بذلك أو مسرّين، فهؤلاء حمقى مأفونون، كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا، وظنوا أن في الصوم كَبْتًا للحرية المزعومة، والتي تعني عندهم أن ينطلق المرء وراء أهوائه وشهواته، يَعُبّ منها دون حد أو قيد، فهؤلاء ـ والله ـ بمنزلة هي من شر المنازل وأخبثها، وأنآها عن الله وأبعدها.
ومن الناس ـ أيها الإخوة ـ أشقياء تعساء، يستقبلون رمضان على أنه شهر جوع نهاري وشبع ليلي، نوم في الفرش في النهار إلى ما بعد العصر، وسهر في الليل ممتد إلى طلوع الفجر، ليس رمضان عندهم إلا موسمًا للموائد الفاخرة، بألوان من الطعام والشراب زاخرة، ذو العمل منهم يتبرّم من عمله، وصاحب التعامل يسيء في تعامله، والموظف تثقل عليه وظيفته، وجوههم عابسة، وصدورهم ضيقة، وألسنتهم سَلِيطة، وغيظهم حانِق، لا يرون في رمضان إلا جوعًا لا تتحمّله أمعاؤهم، وعطشًا لا تقوى عليه عروقهم، فأي مسكنة وضعف يعيش فيه هؤلاء؟! إنهم لم يأخذوا من الحياة سوى جانبها الفضولي العابث، يتأثرون ولا يؤثّرون، يعيشون صعاليك وطفيليين، لا يعتزون بعقيدة ولا بخلق يتمسكون، ولا يفرحون بخير ولا في عبادة يخلصون.
لعلها ـ أيها الأحبة في الله ـ أن تكون بداية النهاية ـ إن شاء الله ـ لكل شيء يُبعِد عن الله ويُسخِطه، ولعلها أن تكون بداية الانطلاقة الحقيقية في المسارعة إلى الخيرات وإرضاء رب الأرض والسماوات.
رمضان شهر التوبة، فأي رمضان يكون رمضانك؟! صعد رسول الله المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين))، فقيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين! فقال : ((إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين)) أخرجه ابنُ خزيمة وابنُ حبان وانظر صحيح الترغيب والترهيب.
فالوحَى الوحَى قبل أن لا توبة تُنال، ولا عثرةَ تُقال، ولا يُفدَى أحدٌ بمال، فحُثّوا حَزْم جزمكم، وشدّوا لِبْدَ عزمكم، وأروا الله خيرًا من أنفسكم، فبالجدّ فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، واعلموا أن من دام كسله خابَ أمله وتحقَّق فشله.
يا عبد الله، هذا أوان الجد إن كنت مجدًّا، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعدًّا، هذا نسيم القبول هَبّ، هذا سيل الخير صَبّ، هذا الشيطان كَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب، قبل إغلاق الباب. فبادر الفرصة، وحاذر الفَوْتَة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى.
ها هو موسم التوبة والإنابة، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، فمتى يتوب من أسرف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي إن لم يتب في شهر رمضان؟! ومتى يعود إن لم يعد في شهر الرحمة والغفران؟! فبادر بالعودة إلى الله، واطرق بابَه، وأكثر من استغفاره، واغتنم زمنَ الأرباح، فأيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضيِّعها باللهو واللعب وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركونه. وإن اللبيب العاقل من نظر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ، ثم إلى دار الحساب.
جعل الله صيامنا صيامًا حقيقيًّا مقبولاً، وجعله إيمانًا واحتسابًا، إيمانًا بما عنده، واحتسابًا لثوابه، كما أسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين ممن صام الشهر، واستكمل الأجر، وفاز بليلة القدر، كما أسأله أن يجعلنا ممن يصومونه ويقومونه إيمانًا واحتسابًا، اللهم اكتب صيامنا في عداد الصائمين، وقيامنا في عداد القائمين.
والحمد لله رب العالمين