خطب الجمـعة |
![]() |
|
141 |
بسم الله الرحمن الرحيم
عمر عليأنواع النّاس بعد رمضان
كتبها : الشيخ
ترجمها إلى الإنجليزية : د . فهيم بوخطوة
08 شـوّال 1431
17 سبتمبر 2010
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون ها هو ذا رمضان قد ودعنا ورحل كما رحل قبله رمضانات ورمضانات.
وتلك سُنـَّة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا. كل كائن إلى فناء، إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا أم جمادا. لكل كائن منها دورة حياة تكون نهايتها الفناء، فالإنسان يقول فيه خالقه وبارئه ومُصوِّره: ( الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير). سورة الروم: 54.
ثُرى ماذا ينتظر الإنسان بعد أن يبلغ من الكبر عُتيا؟ إنه الموت الذي تنتهي به دورة حياته، وعلى هذا النحو تتعاقب الأجيال، جيلا إثر جيل، حتى قيام الساعة.
وكذلك الحيوانات مهما عاشت فإن نهايتها الفناء، ومثلها النبات، ينبت ثم يهيج، ثم تراه مُصفرا، ثم يكون حُطاما.
بل العالم كله مصيره الفناء يوم تقوم الساعة، استمعوا لقوله تعالى: ( القارعة * ما القارعة * وما أدراك ما القارعة * يوم يكون الناس كالفراش المبثوث * وتكون الجبال كالعهن المنفوش).
أجل أيها الإخوة الأحباب: إحتضر رمضان وفارق الدنيا وترك الناس أصنافا:
الصنف الأول: صنفا وفقه الله تعالى فصام نهاره، وقام لياليه صلاة وذكرا ودعاء، وأمسك لسانه عن فحش الكلام ولغوه، وزانه وحلاه بقراءة القرآن، والصدق، والذكر، والشكر، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وطهر قلبه من الحقد، والضغينة والحسد، والإنتقام والقسوة، والكبر وملأه بالحب والرحمة والسلام، والتسامح والتواضع، والبر وكف يده عن الإيذاء، وصان جوارحه عن الإثم والإعتداء، أي أعطى الصيام كل حقوقه خشية لله وحياء منه، وطمع في أن يتقبل الله صومه وعبادته، ويُكافئه بجوائز الستر والرضا، ويجعله من المقبولين الموعودين بجنات النعيم. وهذا تناله رحمة الله لأنه محسن في عمله. وقد قال تعالى: (إن رحمة الله قريب من المحسنين) الأعراف 56 .
الصنف الثاني: فهم من جاهر الله بالمعاصي فأفطر رمضان أو بعضه دون عذر، وأطلقوا لجوارحهم العنان، فبغوا، واعتدوا، وارتكبوا الفواحش، ولم يستحوا من الله تعالى وسعوا في الأرض فسادا وسعوا في خرابها، وتركوا الواجبات وأضاعوا الصلوات أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون. وقد قال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم: "... ومن أدركه رمضان، فلم يُغفر له فأبعده الله قل: آمين"، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "آمين" والمحروم من حرمه الله، والشقي من أبعده الله. اسأل الله أن لا يكون منا ولا بيننا شقيا ولا محروما.
الصنف الثالث: فهم أناس صاموا رمضان ولكنهم لم يعملوا ببعض آداب الصيام ومقتضياته، واقترفوا بعض الصغائر والهفوات، فعسى الله تعالى ان يتوب عليهم، ويعفو عنهم، ويتقبل صيامهم. وهذا الصنف تناله مغفرة الله. قال تعالى: (إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ونُدخلكم مدخلا كريما) النساء 31. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) .
فليكن كل منا على نفسه بصيرة، وليتأمل ظاهره وباطنه، ولينظر كيف تعامل مع رمضان، وليواجهها ويحاسبها، ويزن أعماله قبل أن تُوزن عليه، فاليوم عمل ولاحساب وغدا حساب ولا عمل: فإن وجد نفسه من الصنف الأول فليفرح بنعمة الله تعالى وتوفيقه، وليداوم الطاعة والتقوى، وليدع غيره أن يكون مثله، ليفوز مثله بما فاز .
وإن كان من الصنف الثاني، فليرجع إلى ربه وليندم على ما كان منه، وليكفر عن سيئاته، وليتب إلى الله توبة نصوحا وليقض ما فاته من الصيام، عسى الله ان يتوب عليه، إنه هو التواب الرحيم. وإن كان من الصنف الثالث فليعزم على هجر ما بدر منه من صغائر وهفوات حتى يلحق بالكرام البررة الذين أعطوا الصيام حقه كاملا غير منقوص.
عباد الله لقد فارقنا رمضان المبارك، وفارقنا حاملا معه صحائف أعمالنا، ونرجوا الله تعالى أن تكون امتلأت بالطاعات والحسنات، وأرضت عنا مولانا رب الكائنات، المنعم علينا بما لا يُعد ولا يُحصى من النعم والبركات. لقد انقضى رمضان، ولايليق بنا ان نعود للخطايا والعصيان، وندع الصلاة والعبادة وما فرض علينا الواحد الديان، فرب رمضان هو رب سائر الشهور، ونحن عبيده على مر الدهور، والله تعالى يستحق في كل حين أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر. والله عز وجل شرع لنا رمضان ليملأ قلوبنا بالتقوى فنصلح نفوسنا، ونهذب أخلاقنا، ونقوم سلوكنا، ونواظب على طاعة ربنا. والله عز وجل يريدنا أن نستقيم على العبادة، ونداوم على الطاعة، حتى نفوز ونسعد في الدنيا والآخرة. يقول الله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نزلا من غفور رحيم) فصلت 29. فاستقيموا على طاعة الرحمن، وحافظوا على تقوى رمضان، وأخلاق رمضان. واجعلوا رمضان وما بعد رمضان عهدا جديدا بينكم وبين الله، وتوبة نصوحا تُكفر السيئات، وتقود إلى الجنات. واعلموا أن عبادة الله واجبة في كل وقت وليس لها نهاية إلا بالموت قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) الحجر 99. وقال تعالى (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون). آل عمران 202. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم إنقطع عمله، إلا من ثلاث...) إلى آخر الحديث. والموت قريب، بل هو أقرب للمرء من شراك نعله (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون). واعلموا إخواني إن ربَّ رمضان هو ربَّ شوّال ورب الشهور كلها فهناك من الناس من إذا خرج رمضان عاد إلى ما كان عليه قبله، من ترك بعض الفرائض والواجبات، أو إرتكاب بعض المعاصي والسيئات، وهذه وإن كان إثمها في رمضان أعظم، إلا أنه لا يسقط الإثم في غير رمضان. فعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها" حلية الأولياء (9 \17 )
وقال الحسن البصري: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت.
وهذا عيسى عليه السلام يخبر عن استمراره في الطاعة وعبادة الله تعالى حيث أمره الله بذلك فقال: (وأوصاني بالصلاة والصيام ما دمت حيا). وعن سفيان بن عبدالله رضي الله عنه قال: قلت يارسول الله قل في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: "قل آمنت بالله ثم استقم" .مسلم. قال العلماء معنى الإستقامة لزوم طاعة الله.
أيها الإخوة المؤمنون إن من المعاصي التي تلحظها بعد انقضاء رمضان ويتساهل الناس فيها كثيرا: الإنقطاع عن بيوت الله، فقد كان مسجدنا يغص ولله الحمد بالمصلين في رمضان في كل الأوقات بل شهدنا حضورا مباركا لا في صلاة التراويح وحسب بل في صلاة التهجد أيضا. فحري بمن كان هذا شأنه في رمضان أن يداوم عليه فإنه من علامات القبول والحسنة تجر إلى الحسنة، ودوام الطاعة دليل على قبول الأعمال. ومن المعاصي التساهل في صلاة الجمعة، وهجر القرآن الكريم الذي كانوا يقرأونه في رمضان. ومن تلك المعاصي التقصير في نوافل العبادات، فيستحب للمسلم أن لا ينقطع عنها في غير رمضان، وقد شرع الله سبحانه من الصيام والقيام والصدقات وفعل الخيرات ما يملأ الأوقات ويجعل العبد موصولا بربه على الدوام. فعن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل" البخاري ومسلم. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن الإنقطاع عن العمل الصالح. فعن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل". عباد الله إن المغبون كل الغبن من ظن أن العبادة مطلوبة منه فقط في شهر رمضان وبعده يُعفى من العبادة فهذا جاهل بربه، جاهل بدينه لم يعرف الله حق المعرفة، ولم يقدره حق قدره. حيث لم يُطع الله إلا في رمضان، ولم يخف من الله إلا في رمضان، ولم يرجُ ثوابه إلا في رمضان فكأنما هو عبد لرمضان لا عبدا لله. وليعلم من هذا حاله واقتصر عمله على شهر رمضان فقط بأن عمله مردود عليه مهما أتعب نفسه، لأنه عمل مبتور لا أصل له ولا فرع. ولقد بلغ الجهل ببعض المسلمين أن اعتقد أنه إذا صلى الجمعة كفته عن العبادة بقية الأسبوع، فيضيع الصلوات الخمس. وبعضهم يعتقد أن صيام رمضان والتعبّد فيه يكفيه عن التعبد في بقية السنة، فيترك الصلوات أحد عشر شهرا، ويُصلي في شهر واحد. وليس بعد الشرك أكبر من إضاعة الصلاة يقول تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا * إلا من تاب وءامن وعمل عملا صالحا) مريم 59 ـ 60.
عباد الله لقد شرع من النوافل بعد رمضان صيام ست من شوال، فعن أبي أيوب رضي الله عنه أنه قال: "من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر" مسلم. ومن النوافل صيام يوم عرفة فعن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن صيام يوم عرفة قال: "يُكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده". مسلم. ومن النوافل قيام الليل أيها الإخوة طوال العام فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل" مسلم. وقيام الليل أيها الإخوة جائز أن يصليه المرء المسلم رجلا كان أم امرأة صغيرا كان أم كبيرا منفردا خاليا في بيته في جوف الليل الآخر أو في أوله أو في منتصفه وذلك الأفضل. وجائز كذلك أن يصلى قيام الليل جماعة في مساجد المسلمين (فالجماعة في النفل مباحة سواء قل الجمع أم كثر) فقد ورد ذلك في أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى جماعة ببعض اصحابه غير الفريضة فمن ذلك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين، وصلى معه أنس عن يمينه كما صلت أم سُليم وأم حرام خلفه. وتكرر هذا ووقع أكثر من مرة". أيها الإخوة الأحباب ومن أعمال الخير التي شُرعت لنا على الدوام في رمضان وفي غير رمضان: الصدقة قال تعالى: (الذين يُنفقون أموالهم باليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 174. وغير ذلك من أبواب الخير العظيمة التي فتحها الله لعباده على الدوام. عباد الله إن العبد لا يدري متى يفجأه الأجل، فالموت يأتي فجأة والعاقل من تهيأ للقاء ربه ولم يغره طول الأمل قال تعالى: (يأيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور) لقمان 33.
اللهم تقبل منا صيامنا، وقيامنا، وزكاتنا، وطاعتنا .
اللهم اجعل رمضان حجة لنا بين يديكوشفيعا لنا يوم العرض عليك .
اللهم اجعل رمضان لنا رحمة ومغفرة وعتقا من النار، يا عزيز يا غفار .
اللهم أعد علينا رمضان ونحن لك عابدون، ونحن لك طائعون، ونحن لك شاكرون حامدون. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.